ولكن لما كانت نفس جزئية تشارك فى الوجود العقلى وفى حياة الدوام فإنها لا يمكن أن تهبط هبوطاً كاملاً (قارن ص ١٣٢): فهى من جهة لا تزال متعلقة بالعالم العقلى، وهى من جهة أخرى تتصل بالعالم الحسى، وهى من جهة ثالثة تتحرك وتتنقل بين العالمين، ويجب بطبيعة الحال تأويل هذا التحرك تأويلا روحانياً، أعنى مستقلاً عن الزمان والمكان.
ودرجات هبوط النفس الجزئية تختلف اختلافاً كبيراً، وهى كلما انغمست فى المادة نسيت أصلها السماوى، وإذا اتبعت شهواتها ولذاتها لم تستطع الصعود إلى عالمها الشريف الأعلى، حتى بعد مفارقتها للبدن بالموت، إلا بتعب شديد. أما النفوس
النقية التى انصرفت عن الشهوات ولم تتدنس بأوساخ البدن بل تأهبت بالأعمال الصالحة وتطهرت- وهذا هو الأهم .. بالمحبة والمعرفة، فإنها تستطيع، إما فى حالة الفناء (كتاب أثولوجيا وقارن فى ذلك: L. Massignon: Textes inedits ص ١٣١ وما بعدها) وأما بمفارقة البدن، أن تصعد (صعود، نهوض، ارتفاع، ترقى = (باليونانية) إلى أصلها حيث تشاهد العقل وتشاهد بتوسطه الله ذاته فى نوره وبهائه. وقد تكلم أفلاطون من قبل عن هذا الصعود (فى الجمهورية مثلا، الكتاب السابع ص ٥١٧ ب: حسب كتاب أثولوجيا (ص ٩ والصفحات التالية) فيقال إن أنباذوقليس وأفلاطون وفيثاغورس حثوا أيضاً على هذا الصعود. ويضيف إخوان الصفا إلى هؤلاء الفلاسفة بطلميوس الفلكى، كما أنهم يؤولون ارتفاع المسيح عليه
السلام ومعراج محمد (عليه الصلاة والسلام) تأويلا روحانياً وقد فعل الفلاسفة والصوفية المسلمون مثل ذلك.
ويتضح مما تقدم أن صعود النفس إلى أصلها يمكن أن يسمى "رجوعاً"، وهو يوسف وصفاً أدق بأنه رجوع النفس إلى داخلها، إلى ذاتها، فهو