للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد أظهرنا الشهرزورى على بعض العناصر التى تتألف منها ثقافة السهروردى الفلسفية والتصوفية فذكر أنه سافر فى صغره فى طلب العلم والحكمة إلى مراغة، وأنه اشتغل بالحكمة على مجد الدين الجيلى، وأنه سافر إلى أصفهان وفيها قرأ كتاب "البصائر النصيرية" لابن سهلان الساوى، وأنه سافر إلى غير ذلك من النواحى المتعددة، وصحب الصوفية، واستفاد منهم، وحصل لنفسه ملكة الاستقلال بالفكر والانفراد، ثم اشتغل بنفسه حتى وصل إلى غايات مقامات الحكماء، ونهايات مكاشفات الأولياء (الشهرزورى: نزهة الأرواح، ص ٢٣٣). ومن هنا يتبين أن الثقافة التى تهيأت للسهروردى كانت ثقافة لها طابعان: أحدهما طابع علمى قوامه الفقه والأصول والكلام والحكمة النظرية، والآخر طابع عملى قوامه التصوف وما فيه من أعمال الرياضة وأحوال الإرادة، وهى عند الصوفية الخلص سبيل السالك إلى تصفية نفسه، وتنقية قلبه، وجلاء بصيرته، بحيث يصبح أهلا لتلقى الأنوار، وتجلى الحقائق والأسرار.

على أن حياة التجوال التى كان يحياها السهروردى قد انتهت بقدومه إلى الشام حيث أقام بمدينة حلب سنة ٥٧٩ هـ. وكانت إقامته بها نهاية الطور الثانى وبداية الطور الثالث من أطوار حياته كلها. وهنالك فى حلب نزل فى المدرسة الحلاوية، وحضر درس شيخها الشريف افتخار الدين، وباحث الفقهاء من تلاميذ هذا الشيخ وغيرهم، وناظر أولئك وهؤلاء فأفحمهم جميعا ببراعته وحجته. وكان من ذلك ما كان من ضيق الفقهاء به وحنقهم عليه، واتهامهم له: ومن هنا أيضا استحضره الملك الظاهر بن صلاح الدين وصاحب حلب فى ذلك الحين وعقد له مجلسا من الفقهاء والمتكلمين، يباحثونه ويناظرونه، فإذا هو يظهر عليهم، ويظهر فضله وعلمه وقوة حججه للملك الظاهر. فلم يكن من الملك إلا أن زاد إقباله عليه، وإكباره له، وإعجابه به، فاشتد ضيق الضيقين، وامتد حنق الحانقين، وإرجاف المرجفين حتى بلغ صلاح الدين الذى صور الفقهاء له السهروردى فى صورة المفسد لعقيدة ابنه الملك الظاهر، ولعقائد الناس. وما فتئ الفقهاء يلحون على صلاح الدين