(د) متى قاتل محمد، -صلى اللَّه عليه وسلم- ومتى صار قائدا, حتى تكون صورته عند جل أتباعه هى صورة قائد انتصروا تحت رايته؟ ! إن محمدا عاش داعيا بضعا وعشرين سنة لم يجرد سيفا فى أكثر هذه المدة وأغلبها، أى خلال خمس عشرة سنة من هذه المدة، حش نجحت دعوته وتكون المجتمع الإسلامى وتميز فى المدينة، وأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. . فهل بضع السنوات التى دفعت محمد [-صلى اللَّه عليه وسلم-] أو مجتمعه الجديد إلى دفع الظلم عن مجتمعهم هى التى رسمت وحدها صورة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فى نفوس جل أتباعه. (هـ) هل كان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يأخذ بين أتباعه صورة القائد المتفرد، أو أنه كان ينزل على مشورة خبرائهم ويغير موقفه الحربى الذى اتخذه لأن الخبراء يرون ذلك، ويسلمون له بصحة ما يوحى به إليه لا بصحة ما يرتئيه هو فى الميدان؛ ولما سألوه هل منزلك هذا فى بدر أنزلكه اللَّه أو هى الحرب، وقال لهم: هى الحرب، بينوا له الوضع الحربى السليم، فغير منزله! وإذا كانت سنوات الحرب هى أواخر حياة محمد، وهى نحو ثلث حياته فى الدعوة والرسالة. فهل تكون هى التى ترسم صورته عند جل أتباعه أميرا قائدا انتصروا تحت لوائه أروع نصر وأعظمه! (و) وهل حقا كانت فترة الحرب فى حياة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فترة انتصارات رائعة وعظيمة! أو تخللتها الهزائم فى أحد. . وحنين, لأن غزواته عليه السلام إنما كانت فى حقيقتها حرب دفاع ومقاومة للظلم، كما تصرح الآية القرآنية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} نعم كانت حرب مقاومة للغالبية التى تتكتل لسحق الجماعة الناشئة فى المدينة، قبل أن يصلب عودها، فكانت -كما هو الواقع الملموس- صراعا بين قلة إسلامية تناضل عن كيانها أمام كثرة تتحزب ضدها، ويتعاون فيها مشركو العرب بمكة، مع اليهود المحيطين بمسلمى المدينة الذين عانوا فى هذه المقاومة الحيوية شدائد كثيرة. لم يتهيأ لهم فيها دائما أروع آيات النصر وأعظمها بل زلزلوا فيها زلزالا شديدًا فى غزوة الأحزاب مثلًا. . وأنجدتهم دائما قوة الإيمان, وصلابة اليقين؛ فليس من صحة التقدير فى شئ ما يقوله كاتب المادة عن الأمير المحارب الشبيه بأمراء الجاهلية! وهذا الذى ألمس من دخل التفكير، واهتزاز التقدير، هو الذى يجعلنى دائما أكرر فى هذا التعليق التعوذ من همزات الشياطين، حتى لا تزل قدم ولا يجمح قلم. * * *
وفى الصورة التى حاول الكاتب رسمها لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمير المحارب خطر قوى الإيحاء، حاول أن يتم به تلك الصورة الشوهاء؛ وذلك الخطر هو ما يرسمه بقوله: "والمصطلح "سير" يجئ فى جل الإشارات التى لدينا عن المؤلفات العربية الأولى الخاصة بترجمة حياة النبى [-صلى اللَّه عليه وسلم-] مقترنا دائما بكمة المغازى؛ واقتران هاتين الكلمتين يضئ لنا السبيل فى التعرف على أصل السيرة". أنه كما ترى يقرر اقتران السير بالمغازى ويرى ذلك الاقتران هو المصباح الذى يفهم على ضوئه تلك السيرة، ويتعرف على أصلها. وفى تسامح نقول له: إنه كدأبه يقرر من أمر المؤلفات العربية الخاصة بالسيرة ما يقرره من هذا الاقتران بين السير والمغازى، دون أن يذكر دليلا أو شاهدا على هذه الدعوى إلا ذكره مرجعا هو نولدكه فى تاريخ القرآن. والمنصف يتردد كثيرًا فى التسليم له بهذا الاقتران الذى يريد جعله مفتاح سيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأننا نجد فى مجموعات حديثية قديمة، وهامة، عدم اقتران السير بالمغازى، فمالك فى الموطأ مثلا، وهو من أقدم المجموعات الحديثية التى وصلتنا يعنون بغير هذا كله حين يذكر كتاب الجهاد -جـ ٢، ص ٢، ط صبيح- والبخارى فى صحيحه حين يجمع أخبار غزوات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يجعل العنوان هو "كتاب المغازى" فقط دون لفظ السير -جـ ٣، ص ٢، ط الحسينية- ويضع كلمة السير مع الجهاد فى تحديثه عن فضل الجهاد فيكون العنوان هو كتاب الجهاد والسير -جـ ٢ ص ٩٠. ثم نسمع كلام الفقهاء حين يدرسون أحكام الجهاد فيعنونون لذلك "بكتاب السير" ويبينون السير بمثل قولهم: إن أصل السيرة حالة السير، إلا أنها غلبت فى =