على أنى أختصر الطريق، فاقول لكاتب المادة: لتكن الكلمة من النسيان بمعنى عدم الذكر لا غيره، وليكن استثناءٌ حقيقيًا قصد به إخراج شيء، فمع ذلك كله لا شاهد فى آيتى الأعلى على وقوع النسيان من الرسول فعلا ولا على الاخلال بصيانة الكتاب من التحريف، وبيانه على نحو ما أسلفنا فى آية البقرة، أن كل ما ذكرت إنما هو أن الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] لاينسى إلا بمشيئة الله، لا أنه نسى فعلا، فإن نسى بعد ذلك فليس ذلك نقصًا فيه وليس لنسيانه أثر ما دام ذلك بمشيئة الله، كما دلت آية البقرة على جواز النسيان لا قوعه، وعلى أن الله مبدله بما ينساه خيرًا منه. هذا أبعد ما فى الآيات على تسليم مالا يحتمل التسليم، فلا محل مطلقا للاحتجاج بها على وقوع النسيان وتحريف القرآن، ثم تلك مواضع رث القول فيها وبلى قديمًا وحديثًا حتى لم تبق صالحة لأن يمس بها القرآن اليوم باحث باسم العلم أمين الخولى (١) يرى الكاتب أن وقوع النسخ فى القرآن يتعارض مع قطعية ثبوته. وهذا مالا يظهر وجهه، وإذا كان لما تعلق به الكاتب آنفا من التخليط والنسيان شبه من شبهة فليس يظهر شيء من ذلك فى النسخ، إذ هو -كما سنذكر- ليس إلا تدريجًا فى التشريع على وفق ناموس الترقى الذى يسود الكون، وليس لمساس النسخ بقطعية الثبوت وجه إلا أن يكون ذلك الذى قيل قديمًا من لزوم البداء أى ظهور شيء كان خافيًا على الله. وتلك شبهة واهية. وقد مل القول فيها كذلك، وواضح رد القدماء عليها بأن النسخ لم يكن إلا اتباعًا لمصلحة الخلق لا تغير، لعلم الله؛ والشرائع إنما قصد بها مصالح الناس الدينية والدنيوية، فتبدلت الخطابات بحسب تبدل المصالح كالطبيب يراعى أحوال العليل، فراعى الله ذلك فى خلق بمشيئته وإرادته، فخطابه هو الذى يتبدل وعلمه وإرادته لا تتغير- القرطبى: الجامع لأحكام القرآن "بتصرف" جـ ٢، ص ٦٤؛ والنيسابورى، والفخر وغيرهم من المفسرين عند تفسير آية "ما ننسخ" التى سبق الحديث عنها. على أنه كان يجب على الباحث العصرى العالم أن يقدر أن طوائف من المسلمين المتأخرين قد أنكروا جواز النسخ وفسروا الآيات المقول بنسخها تفسيرًا يتوقف على القول بالنسخ وفيه الكثير من الدقة، وهذا الرأى مبسوط فى كتب التفسير: القرطبى والنيسابورى فى المواضع السابقة، وغيرهما من المفسرين، كما هو مبسوط فى كتب الأصول التى اتصل بها كاتب المادة ولا بد. فعلى القول بوقوع النسخ فعلا فى القرآن الكريم، لا يظهر له تأثير فى قطعية الثبوت على ما سبق بيانه؛ وعلى القول بعدم جواز النسخ يسقط الإيراد من أساسه. ويشتد تعسف الكاتب فى وصفه الملاحظة الدقيقة التى فى الآيات المختلف عليها- إما على انها تدريج واما على القول بعدم نسخها- وصفة ذلك بأنه تناقض كان من هم المفسرين التخلص منه؛ على أنك إن تغتفر له هذا الاطلاق فلن ترى وجهًا علميًا لقوله إن هذه المتناقضات تصور لنا تدرج النبى [- صلى الله عليه وسلم -] فى نبوته فإنها تصور التدريج حقًا ولكن أتدريج التشريع أم تدريج المشرع؟ أما عمل المشرع فظاهر فى تدرجه ولكن هل ذلك تدرج للنبى؟ [- صلى الله عليه وسلم -] وهل يعتبر تدريج المعلم والمدرب والمروض والطبيب فى العناية بمن يعلم أو يدرب أو يطيب صدى لتغيير فى نفسه؟ . لا شك أن ذلك غير الواقع. وهب -تساهلا- أن هذا المظهر يحتمل تدرج النبى [- صلى الله عليه وسلم -] وتدرج الشرع فكيف تحكم الكاتب وجعله مظهر تدرج النبى لا غير؟ لا ندرى على أى أسلوب علمى يعتمد الكاتب فى ذلك، حتى يقرر أن التبديل يمثل توقى النبى [- صلى الله عليه وسلم -] فى نبوته ولا يمثل ترقية فى إعداد أمته وتلطفه فى تربيتها.