للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكونية وتصرف الأقدار. ولكن الكلمة لم تكن تدل على قوة شخصية، بل على قوة غير شخصية تتصرف فى الأشياء وفى الناس، وهى ليست قوة مقدسة ولا إلهية، بل تتصرف تصرفا غاشمًا من غير مراعاة قاعدة، وليس فى عملها حكمة، وقد استعمل الشعراء ألفاظًا أخرى للدلالة على المعنى نفسه مثل كلمات: الزمان، الليالى، الأيام، المنون، الحدثان، المنايا؛ ومن ذلك قولهم: قوارع الدهر، بنات الدهر، ريب الحوادث، ريب المنون. . . إلخ. ولا يمكن أن تخلو أذهان الشعراء، مهما كان اصطناعهم لهذا المفهوم الشعرى المساعد لهم فى التعبير، من فكرة كانت تلوح أمام أذهانهم، وهى فكرة القوة التى وراء القوانين التى تحكم الأشياء وتحكم حياة الإنسان، والتى لا يزال لها ظل فى الشعر العربى على قديم الأيام وحديثها. فالجاهليون كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيب الإنسان من نازلة أو مكروه، وكانوا أحيانا يمقتون هذا الدهر ويسبونه، ويظهر أن فكرة الدهر كانت، على نحو ما، تحل فى أذهان الجاهليين محل فكرة التدبير الإلهى عند المؤمنين باللَّه. ولذلك أراد النبى عليه السلام، فيما روى عنه من قوله: "لا تسبوا الدهر. فإن اللَّه هو الدهر" تصحيح تفكير العرب بأن بين لهم أن ما ينسب إلى الدهر يجب أن ينسب إلى اللَّه، لأن اللَّه هو فاعله، لا الدهر. ومهما يكن من شئ فإن الجاهليين كانوا يتصورون الدهر قوة مفنية. وعلى هذا المعنى نستطيع أن نفهم معنى كلمة: "دهر" فى سورة (الجاثية) آية ٢٤: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر}، وإذن فعند منكرى وجود اللَّه والحياة الآخرة (وهذا ما يفهم بالاستنباط من الآية) أن الدهر قوة مهلكة. والواقع أن "القول بالدهر" أصبح مع تطور النظر الفلسفى عند المفكرين الإسلاميين مساويًا للمذهب المادى، مع إنكار الخالق المدبر وإنكار الحياة الآخرة والقول بقِدَم العالم وقِدَم الأنواع الحيوانية على هذه الأرض، ولذلك نجد المتكلمين، من أول