فى هذه الآية من يبذل دنياه ونفسه لطلب الدين وما عند الله يوم الدين فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اى يبيعها ويبذلها فان المكلف لما بذل نفسه في طاعة الله من الصوم والصلاة والحج والجهاد والزكاة وتوصل بذلك الى وجدان ثواب الله صار المكلف كأنه باع نفسه من الله تعالى بما نال من ثوابه وصار تعالى كأنه اشترى منه نفسه بمقابلة ما أعطاه من ثوابه وفضله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ اى طلبا لرضاه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده ان ما اشتراه منهم من أنفسهم وأموالهم انما هو خالص ملكه وحقه ثم انه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة وإحسانا وفضلا وإكراما وقيل نزلت في صهيب بن سنان الرومي خرج من مكة يريد الهجرة الى النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة وهو ابن مائة سنة اتبعه نفر من مشركى قريش وقتلوا نفرا كانوا معه وكان معه كنانة
فيها سهامه وكان راميا مصيبا فقال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا والله لا أضع سهمى الا في قلب رجل وايم الله لا تصلون الى حتى ارمى بكل سهم في كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقي في يدى ثم افعلوا ما شئتم ولن ينفعكم كونى فيكم فانى شيخ كبير ولى مال في دارى بمكة فارجعوا وخذوه وخلونى وما انا عليه من الإسلام ففعلوا وسار هو الى المدينة فلما دخلها لقيه ابو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال وما ذاك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب. فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشراء لانه اشترى نفسه من المشركين ببذل ماله لهم واعلم ان المؤمنين باعوا باختيارهم أنفسهم فكان ثمن نفس المؤمن الجنة اما الأولياء فانهم باعوا باختيارهم أنفسهم فكان ثمن نفس الأولياء مرضاة الله تعالى وبينهما فروق كثيرة فعلى السالك ان يخرج من أوطان البشرية ويغترب عن ديار الاقران حتى يكون مجاهدا حقيقيا وشهيدا معنويا قال عليه الصلاة (والسلام طوبى للغرباء) وقال ايضا (من مات غريبا فقد مات شهيدا) يشير بذلك الى الانقطاع من الخلق الى الخالق وذلك لا يكون الا بمخالفة الجمهور في العادات والشهوات وفي الحديث (يا انس ان استطعت ان تكون ابدا على وضوء فافعل فان ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة) وذلك لان الوضوء واشارة الى الانفصال عما سوى الله تعالى كما ان الصلاة اشارة الى الاتصال بالله تعالى وفي الحديث ايضا (دم على الطهارة يوسع عليك الرزق) فالطهارة الصورية سبب لتوسيع الرزق الصوري وكذا طهارة الباطن سبب لتوسيع الرزق المعنوي من المعارف والإلهامات والواردات وعند ذلك يحيى القلب بالحياة الطيبة وتموت النفس عن صفاتها وليس ذلك الا اثر الجهاد الحقيقي فمن تخلص من قيد النفس ومات بالاختيار فهو حى ابدا: وفي المثنوى
اى بسا نفس شهيد معتمد ... مرده در دنيا وزنده مى رود
ولا بد للعبد من العروج من الخلق الى الخالق ومن الحاجة التامة لنفسه الى الغنى التام بالحق في تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات فاذا فر الى الله ووصل الى جماله وغرق في مشاهدة جلاله شاهد سر قوله تعالى قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ وأول الأمر ترك الأموال ثم ترك الأولاد ثم ترك النفس. فعند الاول يتجلى توحيد الافعال. وعند الثاني يتجلى توحيد الصفات. وعند الثالث