نعمته عليه وامتن وهو مذموم من الخلق لا من الحق كما قال تعالى (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) والمعنى وبالله لقد أنعمنا على موسى وأخيه هارون بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما وهم بنو إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من تعذيب فرعون وأذى قومه القبط وقد سبق معنى الكرب فى هذه السورة ولما كانت النتيجة عبارة عن التخليص من المكروه وهى لا تقتضى الغلبة اتبعها بقوله وَنَصَرْناهُمْ اى موسى وهارون وقومهما فَكانُوا بسبب ذلك هُمُ فحسب الْغالِبِينَ على عدوهم فرعون وقومه غلبة لا غاية وراءها بعد ان كان قومهما فى اسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم وفيه اشارة الى تنجية موسى القلب وهارون السر من غرق بحر الدنيا وماء شهواتها ونصرتهما مع صفاتهما على فرعون النفس وصفاتها فليصبر المجاهدون على انواع البلاء الى ان تظهر آثار الولاء فان آخر الليل ظهور النهار وغاية الخريف والشتاء طلوع الازهار والأنوار: قال الحافظ
چهـ جورها كه كشيدند بلبلان از دى ... ببوى آنكه دكر نوبهار باز آمد
وَآتَيْناهُمَا بعد ذلك المذكور من النتيجة الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ اى البليغ والمتناهي فى البيان والتفصيل وهو التوراة فانه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها فى مصالح الدين والدنيا قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) . فاستبان مبالغة بان بمعنى ظهر ووضح وجعل الكتاب بالغا فى بيانه من حيث انه لكماله فى بيان الاحكام وتمييز الحلال عن الحرام كأنه يطلب من نفسه ان يبينها ويحمل نفسه على ذلك وقيل هذه السين كهى فى قوله يستسخرون فان بان واستبان وتبين واحد نحو عجل واستعجل وتعجل فيكون معناه الكتاب المبين وَهَدَيْناهُمَا بذلك الكتاب الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل الى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الاحكام وفى كشف الاسرار وهديناهما دين الله الإسلام اى ثبتناهما عليه واستعير الصراط المستقيم من معناه الحقيقي وهو الطريق المستوي للدين الحق وهو ملة الإسلام وهذا امر تحقق عقلا فقد نقل اللفظ الى امر معلوم من شانه ان ينص عليه ويشار اليه اشارة عقلية ولاجل تحققه سميت هذه الاستعارة بالتحقيقية وفيه اشارة الى إيتاء العلوم الحقيقية والإلهامات الربانية والهداية بذلك الى الحضرة الواحدية والاحدية وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ اى أبقينا عليهما فيما بين الأمم الآخرين هذا الذكر الجميل والثناء الجزيل فهم يسلمون عليهما ويقولون سلام على موسى وهارون ويدعون لهما دعاء دائما الى يوم الدين إِنَّا كَذلِكَ اى مثل هذا الجزاء الكامل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لذين هما من جملتهم لا جزاء قاصرا عنه إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يشير الى ان طريق الإحسان هو الايمان فالايمان هو مرتبة الغيب والإحسان هو مرتبة المشاهدة ولما كان الايمان ينشأ عن المعرفة كان الأصل معرفة الله والجري على مقتضى العلم فالانسان من حيث ما يتغذى نبات ومن حيث ما يحس ويتحرك حيوان ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة فى جدار وانما فضيلته بالنطق والعلم والفهم وسائر الكمالات البشرية وفى الحديث (ما فضلكم