الأوّل. فقام أبو ركية مصقلة العبدي، فقال: إنّه ليس للرعيّة أن تردّ على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعا وطاعة في ما أحببنا وكرهنا.
فقال له ابن الجارود: يا ابن الجرمقانيّة، ما أنت وهذا؟ ومتى كان مثلك يتكلّم وينطق في هذا؟
فأجمع الوجوه على تصويب رأي ابن الجارود وقالوا له: «نحن معك وأعوانك على الحجّاج».
وبايعوه على إخراج الحجّاج من العراق ومكاتبة عبد الملك أن يولّي عليهم غيره. وإن أبى خلعوه.
فاستعدّ الحجّاج، وأظهر ابن الجارود الخلاف في ربيع الآخر سنة ستّ وسبعين، وأخرج عبد القيس على رايتها، وانضمّ إليه الناس حتى لم يبق مع الحجّاج إلّا خاصّته وأهل بيته. وخرج ابن الجارود بالناس قبل الظهر وقطع الجسر. فبعث إليه الحجّاج أعين بن [ ... ] يستدعيه فقال له: ومن الأمير؟ لا ولا كرامة لابن أبي رغال. ولكن يخرج عنّا مذءوما مدحورا، وإلّا قاتلناه.
فقال له أعين: إنّ الأمير يقول لك: أتطيب نفسا بقتل نفسك وقتل أهل بيتك وعشيرتك؟
والذي نفسي بيده، لئن لم تأتني لأدعنّ قومك وأهلك حديثا للغابرين!
فقال: لولا أنّك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة.
وأمر به فوجئ عنقه وأخرج. وزحف ابن الجارود إلى الحجّاج فنهبوا ما في فسطاطه من متاعه ودوابّه، وأخذت امرأته [أمّ أبان] بنت النعمان بن بشير، وأمّ سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو. وانصرفوا وتركوه. فصار إليه قوم من [٣٢٤ ب] أهل البصرة.
... ولتضعفنّ منّتكم.
فقال: قد قرب المساء ولكنّا نعاجله بالغداة.
فاستشار الحجّاج من معه. فقال له زياد بن عمرو العتكيّ صاحب شرطة البصرة: أرى أن آخذ لك من القوم أمانا وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين، فقد ارفضّ أكثر الناس عنك ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك.
فقال عثمان بن قطن الحارثي: لكنّي أرى غير ذلك: إنّ أمير المؤمنين قد شركك في أمره وخلطك بنفسه، وسلّطك. فسرت إلى ابن الزبير، وهو أعظم الناس خطرا فقتلته. فولّاك الله شرف ذلك وسناه. وولّاك أمير المؤمنين الحجاز، ثمّ رفعك فولّاك العراق. جريت إلى المدى وأصميت (١) الغرض الأقصى، تخرج على قعود إلى الشام؟ والله، لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذي أنت فيه من السلطان أبدا، ولتضعفنّ شأنك. ولكنّي أرى أن نمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا أو نموت كراما.
فقال الحجّاج: «الرأي ما رأيت» وحفظها لعثمان، وحقدها على زياد. وأتاه عامر بن مسمع فقال: إنّي أخذت لك أمانا من الناس- فجعل الحجّاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: لا أؤمّنهم والله أبدا حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم.
وأرسل إلى عبيد بن كعب النميري يقول: هلمّ إليّ فامنعني!
فقال: قل له: إن أتيتني، منعتك.
فقال: لا، ولا كرامة.
وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد بذلك فأجابه مثل الأوّل. فبعث إلى عبد الله بن حكيم المجاشعي في ذلك فردّ عليه كردّهما. ومرّ عبّاد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وهو يتناجى مع أصحابه، فقال: أشركونا في نجواكم!
(١) في المخطوط: وأصلمت، وأصمى الصيد: قتله مكانه.