وسمع أبو عبد الله ذلك فشق عليه وأرسل إلى اليسع كتابا يتلطّف به ويؤمّنه، وأنّه إنّما قدم إلى جهته بسبب حاجة مهمّة، ولم يقدم لحرب، ووعده من نفسه بالجميل. فرمى الكتاب وقتل الرسول. فعاوده في الملاطفة خوفا على المهديّ وأعرض عن ذكره له أوّلا وآخرا، فقتل الرسول ثانيا وتمادى على حاله، فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه وقاتله حتى الليل، فهرب اليسع ومن معه، وبات أبو عبد الله ومن معه في غمّ عظيم لا يدرون ما صنع بالمهديّ وولده. فلمّا أصبح خرج إليهم أهل البلد وأعلموهم بهرب اليسع، فدخل بأصحابه البلد وأتوا المكان الذي فيه المهديّفاستخرجه منه وأخرج ولده. فلمّا رآهما الناس كانت فيهم مسرّة عظيمة كادت تطيش عقولهم. فقرّب أبو عبد الله إلى المهديّ وولده حصانين فركبا، وحفّت العساكر بهما، ومشى أبو عبد الله ووجوه القبائل بين يدي المهديّ، وأبو عبد الله يقول للنّاس:«هذا مولاكم ومولاي! » وهو يبكي من شدّة الفرح، حتى وصل إلى فسطاط قد ضرب له فدخله [٢٢٠ ب] وأمر بطلب اليسع فخرجت العساكر مسرعة إليه. فأقام إلى العشاء، ثمّ أمر أن يفرش قدّام الفسطاط وخرج إلى الناس وأحاطوا به يسمعون كلامه ويبكون، وهو في ذلك يثني عليهم ويذكر فضلهم. وأدركت العساكر اليسع فأخذوه ومن كان معه. فأمر بضرب اليسع فضرب بالسياط وطيف به العسكر، ثمّ قتل هو وأصحابه. وكان اليسع قد قطع عنه الطعام أيّاما حين سجنه (١).
وكتب بفتح سجلماسة إلى إفريقيّة، وكان
الناس لمّا خرج منها أبو عبد الله وغاب عنهم ظنّوا به الظّنون وشنّعوا الإشاعات. فعند ما ورد كتاب الفتح وظهور المهديّ سرّ الناس.
وأقام المهديّ بعد الفتح بسجلماسة أربعين يوما، وكان ظهوره من سجلماسة يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجّة سنة ستّ وتسعين ومائتين.
قال مؤرّخ القيروان:«وكانوا يزعمون في قديم الزمان أنّ الثاني عشر من أبي طالب والد أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه هو الذي يصير إليه أمر المسلمين فيكون إماما، وذلك إذا دخلت سنة ستّ وتسعين ومائتين. فكان كذلك».
[[انتصابه بالقيروان]]
فلمّا تمّ له من يوم الفتح أربعون يوما نهض يريد إفريقيّة. وأمر بإحضار الأموال التي على أيدي الدعاة، فلمّا حضرت قبضها. وسار إلى رقّادة فوصل يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. وحضرت إليه الأموال من إيكجان فدخل بها معه إلى رقّادة.
وزالت بالمهديّ دولة بني الأغلب وملك بني مدرار الذين آخرهم اليسع وكان لهم في الملك ثلاثون ومائة سنة تفرّدوا بسجلماسة وما حولها من أيّام الخليفة أبي جعفر المنصور. وزال أيضا ملك بني رستم من تاهرت وله ستّون ومائة سنة تفرّدوا بتاهرت وما حولها من أيّام الخليفة عبد الملك بن مروان. وملك المهديّ جميع ذلك في هذه السنة.
ونزل بقصر من قصور رقّادة بعد ما خرج إليه أهلها وأهل القيروان، وأبو عبد الله ورؤساء القبائل مشاة بين يديه وولده خلفه فسلّموا عليه فردّ عليهم ردّا جميلا وأمرهم بالانصراف.
فلمّا أصبح يوم الجمعة أمر الخطيب أن يذكره في الخطبة فيقول: «أبو محمد عبد الله الإمام
(١) في رواية الداعي إدريس: عيون، ١٦٢، أنّ المهديّ عفا عن اليسع ولكنّ الأمير المدراريّ رفض الأكل والشرب حتى مات.