للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بين التأهل والاغتراب، وتصرّف بين الضرب والصاب، فخلّصه الزمان إبريزا، وأبى له الكمال في ما نهض فيه إلّا تبريزا. نشأ حيث مولده بمدينة قفصة في بحبوحة ذلك الكرم، وتقلّب بين أفياء تلك النعم. ولم يشغله عن طلب العلم الجاه والغنى، إلى أن نال من فنونه غاية المنى. ولمّا أكبرته العيون، وتحقّقت في نجابته الظنون، قلّده صاحب إفريقيّة الأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص خطّة أبيه، وهي قضاء قفصة، ورفعه ودفع كلّ خاطب على تلك المنصّة.

[[ركوبه البحر إلى المشرق]]

ومع هذا فإنّه لم يزل له إلى المشرق حنّة، لم يبلغها أبو نواس إلى دير حنّة، ابتغاء في زيادة العلم ومشاهدة من به من ذوي الفهم. فرحل عن بلده بماله وولده، وصبّح أهل مدينته من فراقه براغية البكر حتّى بكته لحسن سيرته عين ذي حسده، وطارت به أجنحة الرياح في اللجج الخضر، وهي كاشرة عن المنايا الحمر، فغار البحر الملح من ركوب البحر العذب، فلم تنج (١) إلا حشاشة مهجته التي غفرنا له بها كلّ ذنب، ولم يبق معه إلّا الكنز الذي لا يبور ولا يضيع، فنال به حيث اتّجه من بلاد المشرق ذروة المكان الرفيع، وأوصله إلى مجلس الملك الأعظم الكامل فغمره من إحسانه ما بقي مستمرّا عليه إلى الآن (٢)، وأغناه بحمد الله عن فلان وفلان.

[[موسوعته فصل الخطاب]]

وانزوى في كسر بيته على جمع التصانيف في مختلفات الفنون، حتّى كمل له ما قصر عنه المصنّفون، وأعظمها تصنيفه الذي سمّاه ب «فصل الخطاب، في تدبير الطعام والشراب، وسائر ما

يتّصل بهما بسبب من الأسباب».

وجملة الأمر فيه أنّه لم يترك في العالم العلويّ والسفليّ شيئا ممّا ينظر إليه فيستحسن، أو يشمّ فيستعطر، أو يؤكل فيستطاب، ممّا خلقه الله، أو نضيفه لأنفسنا، أو يشرب فينساغ، من المشروبات المباحة أو المحظورات، أو يسمع فيرتاح إليه، إلّا وأورد الكلام عليه من كل علم من العلوم المعقولة والمنقولة، والشرعيّة والأدبيّة.

وأنا أقول قول منصف غير جاحد للحقّ: إنّه ما ألّف في معناه مثل كتابه هذا، لا في قديم الزمان ولا في حديثه، وإنّه لممّا تحتاج إليه مجالس الملوك. وقد ولع بتصنيفه ولوع جميل ببثينة، واسألني عنه تجد الخبر اليقين عند جهينة، وله في تصنيفه نحو من ثلاثين سنة، لا تشغله عنه يقظة ولا سنة [البسيط]:

إذا تلفّظت لم أنطق بغيركم ... وإن سكتّ فأنتم عقد إضماري

وله على الكتب وفضلاء الأدب عيون، كلّما علّموا بشيء من ذلك على تلك المسالك، فلا يستقرّ به [١٦٢ أ] قرار حتى يبلغ منه الغرض والاختيار، مصرفا في ذلك جاهه وماله، إلى أن يقضي منه آماله. وله من النثر [٨٦ أ] والنظام، مكان البدر من التمام، هذا على كون الأدب أقلّ فنّ من فنونه الجمّة، وبمنزلة الطراز لملابس تلك النّعمة.

[[بعض شعره]]

ومن شعره يعارض أبيات ابن شهيد التي يغنّى بها [الرمل]:

مرّ بي في فلك من ربرب ... [قمر مبتسم عن شنب] (٣)


(١) خبر غرق أولاده الثلاثة في الورقات ٢/ ٤٤٩.
(٢) مات ابن سعيد سنة ٦٧٣ أو ٦٨٥.
(٣) الإكمال من الذخيرة لابن بسّام ١/ ٣٠٩ و ١/ ١٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>