ونزل في أيّامه بحارة الخراسانيّين شابّ من أهل بلخ حسن الصورة، فصيح اللسان، حافظ للقرآن والسنن، فأمّ في مسجد ولزمه أهل الحارة في كلّ عشيّة لكثرة فوائده، ورقّة مواعظه، وحسن تلاوته، وتوزّعوا له من بينهم ما يكفيه. فبينا هم جلوس معه في عشيّة إذ طلع عليهم كهل من الخراسانيّة وفي يده خنجر وعليه لباد. فلمّا رآه إمام الحارة قام وهرب. فعدا صاحب اللباد في أثره وقتله بخنجره، فقبض الجماعة عليه وقادوه إلى ابن طولون. فقال له: ما الذي حملك على قتله؟
قال: أصلح الله الأمير: كان هذا جاري ببخارى. فدخلت يوما منزلي فوجدته مفترشا زوجتي ففزعت إلى السيف وقطعتها به، وهرب منّي. وشهر أمري، وطلبه السلطان وأطلق لي قتله فلم أجده. وأخبرت بخروجه من بخارى فتركت كلّ ما أنا بسبيله ببلدي وطلبته. فكنت لا أدخل بلدا إلّا قيللي: «قد رحل»، إلى أن دخلت مصر فوجدته وأخذت بثأري، وما أبالي متى قتلت بعده.
فسأل أحمد بن طولون عن المقتول من الجماعة فأخبروه بخبره إلى أن قالوا له: «هرب منه ساعة [٩٣ أ] رآه». فقال للقاتل حينئذ: كثّر الله في الرجال مثلك! انصرف مكلوءا محفوظا.
فمضى من عنده إلى بلده.
[لجوءه إلى التجسّس]:
وقال مرّة لرئيس السّعاة: قد خفي عليّ أمر فلان- عن رجل من الأتراك- ولم أقف منه على خبر قطّ، حتّى كأنّه ببلد آخر. ومن العجب أن يضبط هذا نفسه على ما أعلمه من نقص عقله؟
فقال الساعي: قد عاينت أمره فوجدته يركب إلى دار الأمير ويؤخذ له حوائج مطبخه وما يحتاج إليه سائر يومه. فإذا رجع أغلق الباب ولم يفتح إلى الوقت الذي يركب فيه إليك.
فقال أحمد بن طولون: أريد أن أعلم ما يعمل في منزله سائر يومه.
فمضى الساعي وأخذ دارا تلاصق دار التركيّ وأظهر أنّه يريدها لقادم من الأولياء، فإذا هي تشرف على دار التركيّ. وعاينه فوجده يأكل في مجلس بقاعة ثمّ تسبل الستور فينام إلى وقت العصر. ثمّ يفرش له حصير عليه فرش في قاعة الدار. ويجلس ومعه جارية، وليس معهما ثالث، وتوضع بين يديه صينيّة وبين يديها صينيّة، وتأخذ عودا فتغنّيه أحسن غناء وتشرب أجمل شرب حتى [إذا سكر] (١) خلط في كلامه وقال للجارية: يا فلانة، خلا أحمد بن طولون في هذا الباب يلعب فيه.
فقالت له: دعنا من هذا! اسمع يا سيّدي هذا الصوت الطيّب! - وأخذت فيه. فلم ينثن، وقال لها: ويحك! في عنقي بيعة للخليفة، وليس يحلّ لي أن أمسك، وإنّ عزمي أن أضرب أحمد بن طولون في مقتله بخنجر، ولا أبالي أن أقتل بعده.
فإنّني كنت أدخل الجنّة ويدخل النار. يا جارية، هو والله عاص!
فقالت له: يا سيّدي، دعنا من هذا، واشرب ما في هذا الطاس على هذا الصوت الطيّب!
وغنّت فشرب الطاس. وزاد أمره فأخرجه الغيظ من أسر التحفّظ وقال: افتح الباب حتى أخرج إلى هذا العاصي، فإما أن يقتلني وإما أن أقتله.
فزادت الجارية في مداراته، ولم تزل تقبّله في
(١) سقوط في سياق الكلام.