للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

منها، وبعثا النوّاب إلى الممالك وقتلا من بقي من التتر بعد رحيل غازان، بحلب، وقرّرا أمور الشام [و] عادا إلى القاهرة في ثالث شوّال. ثم خرجا مرّة ثانية بالملك الناصر إلى جهة الشام في صفر سنة سبعمائة لحرب غازان، وعادوا جميعا من العوجاء في جمادى الأولى. فقام بيبرس في أمر النصارى قياما يشكره الله عليه: وذلك أنّهم كانوا قد تزايد ترفهم وكثر طغيانهم وصاروا يفتّنون في ركوب الخيول المسوّمة والبغلات الرائعة بحلي الفضّة والذهب، ويتأنّقون في جودة الملابس الفاخرة، وإليهم سائر أعمال الدولة يتصرّفون فيها برأيهم كيف أحبّوا. فاتّفق أنّ بعض المغاربة (١) رأى أحد المتعمّمين راكبا وحوله عدّة من المسلمين يمشون في ركابه ويسألونه ويتضرّعون له ويقبّلون رجله، وهو لا يعبأ بهم ولا يلتفت إليهم ويصيح فيهم وينهرهم ويسبّهم سبّا قبيحا ويطردهم غلمانه. فلمّا أنكر ذلك قيل له: وهو مع ما ترى نصرانيّ!

فلم يتمالك نفسه وصعد من فوره إلى الأمير بيبرس، ودخل عليه وهو يبكي، وأخبره بما رأى، وشنّع في القالة عليه، وقال: كيف ترجون النصر على أعدائكم، [٣١٣ أ] وأنتم تعزّون من أذلّ الله، فتركبون النصارى الخيول، وتمكّنونهم من زيّ أهل الإسلام، حتى أذلّوا المسلمين واستهانوا بهم؟ - ونحو ذلك من القول.

[[تشديده على النصارى واليهود في اللباس]]

فأثّر كلامه في نفس بيبرس، واجتمع بالأمير سلّار النائب، وطلب القضاة والفقهاء وبطرك النصارى ورئيس اليهود، وبرز مرسوم السلطان

بحمل أهل الذمّة على حكم الشرع. فاجتمعوا بالمدرسة الصالحيّة بين القصرين من القاهرة، وفوّض أمرهم لقاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفيّ. فألزم بطرك [٢٧١ أ] النصارى وأساقفتهم وديّان اليهود بتغييرهم زيّ طوائفهم، وأن يتميّز النصارى بلبس العمائم الزرق، واليهود بالعمائم الصفر، وأن لا يركبوا الخيول ولا البغال، وأن يمتنعوا من سائر ما منعتهم منه الشريعة المحمّدية، ويلتزموا سائر ما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فالتزموا ذلك، واشهد عليه البطرك أنّه حرّم على جميع النصارى مخالفة ذلك والعدول عن شيء منه. وقال رئيس اليهود وديّانهم: أوقعت الكلمة على من خالف هذا من اليهود. وكتب عن السلطان إلى سائر أعمال مصر والشام بذلك. فلمّا كان يوم خميس العهد (٢) وهو العشرون من شهر رجب جمع سائر نصارى مصر والقاهرة ويهودهما، وألزموا بأن لا يخدم أحد منهم في شيء من دواوين السلطان، ولا دواوين الأمراء، وشدّد عليهم في المنع من ركوب الخيل والبغال، وأن لا يخالفوا شيئا ممّا شرط عليهم، وهدّدوا بالقتل إن خالفوا. ثمّ نودي بالقاهرة ومصر عليهم أنّ منخالف منهم ما أمر به سفك دمه. فضاقوا ذرعا بذلك وبالغوا في السعي بالأموال ليعفوا من ذلك، فامتنع بيبرس من إعفائهم وبذل جهده في الثبات ومعارضة الأمراء حتى اضطرّ النصارى الحال إلى الإذعان، وأسلم من أعيانهم غير واحد، أنفة من لبس الأزرق وركوب الحمار.

وسار البريد إلى سائر أعمال الشام بحمل اليهود والنصارى على [ما] شرح.


(١) السلوك ١/ ٩٠٩: المغربيّ هو وزير ملك المغرب وقد مرّ بالقاهرة حاجّا. وانظر في ص ٩١١ منه هامش ١ التعليق الهامّ من الناشر.
(٢) قال ناشر السلوك: هو المسمّى عيد العدس يأتي قبل الفصح بثلاثة أيّام.

<<  <  ج: ص:  >  >>