للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[تنكّر البابلي له بعد إحسانه إليه]

فدعي البابليّ واستقرّ في الوزارة بعد اليازوريّ، فتجرّد لمقابلة إحسان مصطنعه بكلّ قبيح، وذكره في مجالسه بما لا يستحقّه منه.

وكانت هذه الرقعة أعظم ذنوبه عنده، فكان يقول:

يخاطبني وهو على شفير القبر بنون العظمة! - ولا يذكره إلّا بالسفيلة والسقائط (١). ولم يقنعه كونه في الاعتقال بمصر حتّى نفاه إلى تنيس في صفر، هو وأولاده ونساؤه وحاشيته، فاعتقلوا بها. وشرع في التدبير على قتله خوفا من الرضى عنه.

فحدّث عظيم الدولة متولّي السّتر قال: كنت في جملة الصقالبة الموكّلين على الناصر [اليازوريّ] ثمّ على البابليّ بعده. فكنت أرى من رئاسة الناصر- على شبيبته- ورجاحته، وسكون جأشه، ومن طيش البابليّ وخفّته ونقصه، ما أعجب منه. وهو أنّي لمّا كنت موكّلا بالناصر، كنت أراه ملازما بالعتبة باب المجلس في القاعة لا يتغيّر مكانه. وكان البابليّ يتعلّى عليه ويراسله بما يمضّ (٢) ويوصينا إذا مضينا إلى [اليازوريّ] بالجلب على فتح الباب والإكثار من قلقلته عند الفتح، لنرعبه بذلك، فو الله ما يكترث إليه ولا ينزعج. وإذا دخل إليه تذكار متولّي الستر يكون جلوسه منه في الاعتقال كجلوسه منه في وقت وزارته، ويخاطبه بما يرضى به فيجيبه عنه بسكون وهدوء كأنّه في الدست جالسا. فأذكر، وقد دخل إليه يوما فجلس ونحن وقوف بين أيديهما أكثر من ثلاثين صقلبيّا، فأدّى إليه ما أوصاه البابليّ به، وأجابه عنه. فنهض ولبس نعله وقال له: يا سيّدي، صرفتني عن الستر بغير ذنب ثمّ أعدتني

إليه بغير مسألة. فما كان مغناك (٣) في ذلك؟

فرفع طرفه إليه كأنّه والله يخاطبه من دست الوزارة، وقال له: كان صرفك في الأوّل برأيي واختياري. ثمّ أعدتك كذلك برأيي لما عرفته من ميل مولانا إلى استخدامك.

فخرج تذكار وهو يقول: انظروا إلى هذا الرجل في سكون جأشه وقلّة احتفاله في الجواب [٣٦٧ أ] مع حاجته إليّ في مثل هذا الوقت الذي تحقّق قدرتي على الإحسان إليه فيه وعلى الإساءة. فو الله ما خاطبته إلّا وأنا أظنّ أنّه سيجيء بما يمهّد عندي عذره فيه، فلم يكن منه غير ما سمعتموه. وو الله ما أجد سبيلا إلى مقابلته بغير الجميل، لما كنت أشاهد من أفعاله وجميل سيرته.

وكان أكثر وقته صائما، ولا يكاد يفطر إلّا أقلّه.

ذاك، وهو كثير التلاوة، ولا يسأل عن شيء من طعام ولا شراب. وكنت من حاله عجبا.

كان في حال وزارته كثير الصّمت، مواصل الإطراق، شديد سكون النفس، هادئ الطبائع.

فكنّا نحمل ذلك منه على التيه والصّلف والإعجاب وقلّة احتفاله بالناس. فلمّا صار في حالة القبض والخوف كانت حاله على مثل ما كنّا نشاهده منه ونتّهمه فيه.

[مكيدة البابلي لقتل اليازوريّ]

وأخذ البابليّ كلّما حضر بين يدي المستنصر يكثر التثريب على اليازوريّ، إلى أن كان اليوم الذي شغبت عليه الأتراك ووطئوا درّاعته، فإنّه لمّا دخل على المستنصر قال: يا أمير المؤمنين، إنّه لا ينفذ لك أمر، ولا يتمّ لي نظر، وهذا الكليب في قيد الحياة.

فقال: ومن هو هذا الكليب؟


(١) في الاتّعاظ ٢/ ٢٤٠: بالسفاهة واللغو، وقراءتنا ظنّيّة.
(٢) في الاتّعاظ ٢/ ٢٤٦: لما يمضي.
(٣) في الاتّعاظ ٢/ ٢٤٦: فما كان سبب ذلك؟

<<  <  ج: ص:  >  >>