للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكان لا يبتاع لمطبخه من الطير ما هو معرّق، ولا مصدّر (١)، وسعر المعرّق ستّة أطيار بدينار، والمصدّر أربعة بدينار، والمسمّن ثلاثة بدينار، والفائق اثنان بدينار، فيعمل المسمّن لداره ومن فيها، وأمّا مائدته فلا يقدّم عليها إلّا الفائق.

فاتّفق حدوث الغلاء في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وصار الخبز طرفة من الطّرف لقلّته وغلاء السعر من قصور (٢) النيل، والمستنصر يحضر دار الوزير في كلّ يوم ثلاثاء على عادته، وتقدّم إليه المائدة، فيراعي حالها فيجدها على ما يعهد، لم يختلّ منها شيء، حتّى الدجاج الفائق.

فقال لصاحب مطبخه: ويلك! يكون راتب مائدة الوزير الدجاج [٣٦٦ ب] الفائق، ومائدتي دون ذلك؟

فقال: يا مولانا، ما ذنبي إذا قصّر بك أصحاب دواوينك ومطابخك ولم [يطلقوا لمائدتك ما ألتمسه منهم؟ والوزير، فلا يتجاسر وكلاؤه أن] (٣) يقصّروا في شيء ممّا جرت به العادة في راتب مائدته وغيرها، مع تقدّمه إليهم في كلّ يوم بالزيادة فيها وفي راتب داره.

وكان الوزير أيضا إذا أعطى هنّأ، وإذا أنعم على إنسان أسبغ، وإذا اصطنع أحدا رفعه إلى ما تقصر عنه الآمال والأماني، مع عظيم الصدقة وجزيل البرّ الذي عمّ به أهل البيوتات بما أقامه لهم من المشاهرات على مقاديرهم، والأشراف سكّان المنامة (٤)، والفقراء وأهل الستر بالقرافة بما يواصلهم به من البرّ والكسى، ويجري ذلك على

يد ابن عصفور أحد الشهود بمصر ووكيل السيّدة الوالدة. فكانوا يظنّون أنّ ذلك من إنعامها وبرّها أو من إنعام المستنصر. فلمّا قتل الوزير انقطع عنهم ما كان يصل إليهم من برّه، فاستنصروا بذلك [الوكيل] وواصلوا الخطاب فيه وقالوا: قد جفينا من مولانا ومولاتنا وانقطع برّهما عنّا، فلو أذكرتهما بنا؟ - وأكثروا من ذلك على ابن عصفور. فقال لهم: الذي كنتم ترون ما كان ليجيئكم حتى يبعث الله ناصر دين آخر! فحينئذ يأتيكم منه ما كان يصلكم به.

فقالوا: نحن التمسنا من مولانا ومولاتنا، ولم نلتمس من ناصر الدين؟

فقال: ما كان يجيئكم ذلك إلّا من الوزير، فإن بعثه الله لكم فعساه يبرّكم بما كان يبرّكم به.

فعجبوا من ذلك وأكثروا من الترحّم عليه.

ولمّا تظافر الغلامان (٥) على الوزير حتّى تمّ من القبض عليه ما تمّ، لم يشعر مستهلّ المحرّم سنة خمسين وأربعمائة إلّا وقد قبض عليه. فكتب رقعة إلى أبي الفرج البابليّ، لموضع تقدمته له، وبما أحسن به إليه وأنعم عليه، وأنّه هو الذي رفعه على جميع أصحاب الدواوين، واستخلصه دونهم.

وظنّ أنّه يجازيه على ما صنع إليه، ويفي به.

فخاب ظنّه، ونصّ الرقعة بعد البسملة: عرفنا يا أبا الفرج، أطال الله بقاءك وأدام عزّك، تغيّر الرأي فينا، وسوء النيّة والطويّة. فإن يكن هذا الأمر صائرا إليك، فاحفظ الصّحبة وارع واجب الحرمة. وإن يكن صائرا إلى غيرك فابتغ لنفسك نفقا في الأرض. على أنّا نشير عليك إذا دعيت إليه ألّا تتأبّى عنه، فإنّه أصلح لك وأعود علينا، والسلام.


(١) المعرّق: المهزول، والمصدّر: لعلّه غليظ الصدر يابسه.
(٢) أي: نقصان فيضانه.
(٣) زيادة من الاتّعاظ ٢/ ٢٤٠.
(٤) المنامة: ذكرها ابن دقماق ١/ ٣٥ بين الأماكن المذكورة بمدينة مصر قرب غافق.
(٥) قد مرّ ذكرهما: فرج المغراويّ وتنا الفرّاش.

<<  <  ج: ص:  >  >>