للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إليّ، فمضى الحاجب إليه وعاد إليّ فدعاني، فلمّا دخلت عليه قال لي: أنت القاضي؟

فقلت له: نعم.

فقال لي: فأنا ماذا؟

فسكتّ، ثمّ قلت: أيّها القاضي، هذا لقب لقّبت به.

فتبسّم وقال: أتحفظ القرآن؟

فقلت له: نعم.

فقال: تبيت عندنا الليلة أنت وأربعة أنفس معك، وتواعدهم عند خروجك، ممّن تعلم أنّه يحفظ القرآن والأدب.

فخرجت من عنده ووعدت العدّة التي رسم لي أن تحضر عند صلاة المغرب في دهليزه.

فلمّا صلّينا المغرب خرج إلينا البوّاب فأمرنا بالدخول، فدخلنا وجلسنا في مجلسه، ولم يحضر القاضي. فقدّمت إلينا مائدة حسنة فتقدّمنا وأكلنا.

ونقلت على المائدة ألوان كثيرة وحلواء كثيرة.

فلمّا قاربنا القراءة رفع القاضي المقطع (١) وخرج إلينا جالسا يزحف، ومنعنا من القيام إليه، ثمّ استدعى بالأكل وأمر بتجديد نقل الطعام فنقل، وعرفنا أنّه لم يأكل شيئا، وقال لنا: كلوا معي! فلا يجوز أن تدعوني أن آكل وحدي.

[محبّته لولده أبي العبّاس]

فلمّا رفعت المائدة وغسلنا عرفنا أنّ الذي دعا إلى مبيتنا عنده غمّه على ولده أبي العبّاس، وكان غائبا بمكّة ثمّ أمر من يقرأ منّا بالقراءة فقرأنا. ثمّ استحضر ابن المقارعي وأمره أن يقول: فقام جماعة منّا وتواجدوا بين يديه، ثمّ قال شعرا في وقته وأمر ابن المقارعي أن يلحّنه ويغنّي به، والشعر:

يا طالبا بعد قتل ... ي الحجّ لله نسكا

الأبيات. فلحّنه ابن المقارعي وغنّى به، وبكى القاضي بكاء شديدا، واستعاده منه دفعات. ثمّ أشال المقطع ودخل إلى داره.

وبلغت الأبيات أبا العبّاس، فلم يكن إلّا أيّام يسيرة حتى قدم فدخل عليه وقبّل رأسه، وقال: قد جئتك، لا تبك ولا تبك!

وحضرت يوما عند القاضي أبي الطاهر وعنده أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (٢)، وأبو بكر محمد بن محمد بن غنيمة المعيطي وأخذوا في المذاكرة، فكأنّما كان الدرّ يجري من أفواههم، وكان القاضي رحمه الله مفوّها (٣). انتهى ما ذكره الحافظ عبد الغنيّ.

[[معرفته الواسعة بالحديث]]

وقال ابن زولاق: وكان أبو الطاهر كثير الحديث والأخبار واسع المذاكرة قد عني به أبوه فسمعه في سنة سبع وثمانين ومائتين فأدرك جماعة، منهم عليّ بن محمد بن السمسار وعبد [٨٠ أ] الله بن أحمد بن حنبل، حدّث ببغداد، ونزل مصر وحدّث بها فأكثر، وكتب عنه عامّة أهلها، وسمع منه جماعة، منهم أبو الحسن الدارقطني وعبد الغني بن سعيد، الحافظان، وانتقيا عليه.

(قال): وكتب له بنوه أبو العلاء وأبو يعلى (٤) وأبو العبّاس، وكان يذهب إلى قول مالك بن أنس هو


(١) المقطع: لعلّه موضع الشقّ من الستار، أو الستار الذي يخفي الممرّ (انظر دوزي في المادّة).
(٢) الدارقطني (٣٠٦ - ٣٨٥) المحدث صاحب كتاب السنن. كان رحل إلى مصر ليساعد الوزير ابن الفرات على تصنيف مسنده (الوفيات ترجمة رقم ٤٣٤).
(٣) مفوّها: قراءة ظنّيّة.
(٤) أبو يعلى محمّد بن محمّد، ابن القاضي الذهلي: شارك مع أبيه في وفد التفاوض مع جوهر، (عيون الأخبار ٦٧٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>