للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كنت أجالس الناس وأتحفّظ، ثمّ اشتهيت أن أدوّن. وكان منزلنا بمكّة بقرب شعب الخيف، فكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب، فبها امتلأ في دارنا من ذلك حبّان.

وقال الحميديّ عن الشافعيّ: كنت يتيما في حجر أمّي، ولم يكن معها ما تعطي المعلّم. وكان المعلّم قد رضي منّي أن أخلفه إذا قام. فلمّا ختمت القرآن دخلت المسجد، وكنت أجالس العلماء، وأحفظ الحديث أو المسألة. وكان منزلنا بمكّة في شعب الخيف. فكنت انظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث أو المسألة، وكانت لنا جرّة قديمة، فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرّة.

فقدم علينا والي اليمن فكلّمه بعض القرشيّين في أن أصحبه، ولم يكن عند أمّي ما تعطيني أتحمّل به فرهنت دارها على ستّة عشر دينارا ودفعتها إليّ، فتحمّلت بها مع والي اليمن. فلمّا وصلنا سالمين استعملني على عمل فحمدت فيه فزادني عملا آخر فحمدت فيه. ودخل العمّار مكّة فأحسنوا عليّ الثناء وأكثروا من المدح.

فلمّا قدمت مكّة لقيت ابن أبي يحيى فسلّمت عليه، فقال لي: «تصنعون كذا وتفعلون كذا! » فتركته. ولقيت سفيان بن عيينة فسلّمت عليه فسلّم عليّ وقال لي: «قد بلغنا خبر ولايتك وحسن ما انتشر عنك، فاحمد الله وتمسّك بالعلم يرفعك الله وينفعك! »، فكان كلام سفيان أبلغ فيّ ممّا كلّمني به ابن أبي يحيى.

ثمّ وليت بعد ذلك نجران، وكان بها قوم من بني الحارث وموالي ثقيف. فرفع إليّ الناس مظالم كثيرة، فجمعتهم وقلت لهم: اختاروا لي سبعة منكم، من عدّلوه كان عدلا مرضيّا، ومن جرّحوه كان مجروحا قصيّا. فاختاروا لي منهم سبعة، فجلست وأجلست السبعة بالقرب منّي. فكلّما شهد عندي شاهد بعثت إلى السبعة فإن عدّلوه كان عدلا وإن جرّحوه كان مجروحا. فلم أزل أفعل ذلك حتى أتيت على جميع من تظلّم إليّ، فكنت أكتب وأسجّل. فنظروا إلى حكم جار فقالوا: «إلى أيّ شيء تعمله؟ إنّ هذه الأموال (١) التي تحكم علينا فيها ليست لنا، إنّما هي في أيدينا لمنصور ابن المهديّ». فكتبت في أسفل الكتاب: وأقرّ فلان بن فلان الذي وقع عليه الحكم في هذا الكتاب أنّ الذي حكمت به عليه ليس له، وإنّما هو لمنصور بن المهديّ في يديه [١٢١ ب]، ومنصور ابن المهديّ على حجّته ما أقام.

فلمّا نظروا إلى ذلك خرجوا إلى مكّة ووقعوا عليّ، ولم يزالوا يرفعون عليّ [حتّى] حملت إلى العراق، فقيل لي: «الزم الباب! ». فقلت: إلى من أجلس؟ إلى من أختلف؟ - وكان محمد بن الحسن جيّد المنزلة عند هارون الرشيد. فجالسته حتّى عرفت قوله، ووقعت منه موقعا، فلمّا عرف ذلك كان إذا قام هو ناظرت أصحابه واحتججت عليهم. فقال لي ذات يوم: بلغني يا محمّد أنّك تخالفني في الغصب؟

فقلت: إنّما هو من طريق المناظرة.

فقال لي: لقد بلغني غير هذا، فناظرني!

قلت: إنّي أجلّك عن المناظرة.

قال: لا، فافعل!

فلمّا رأيت ذلك قلت له: هات!

[[مناظرته مع محمد بن الحسن]]

قال: ما تقول في رجل اغتصب من رجل ساجة (٢) فبنى عليها بنيانا، فأنفق عليه ألف دينار،


(١) في المخطوط: يعمله. وعند البيهقيّ ١/ ١٠٧: إنّ هذه الضياع ... وفي الحلية ٩/ ٧٦: الضياع والأموال.
(٢) الساجة: خشبة من عود الهند يبنى عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>