للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فإنّ الله جعل ذلك لنا وله خبرة. ألا وإنّ أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقلّ الثمن. فإن نقتل فإنّا والله ما نموت حبجا (١) كما يموت بنو أبي العاصي. والله ما قتل رجل منهم في الجاهليّة ولا في الإسلام. وما نموت إلّا قتلا بالرماح وتحت ظلال السيوف. ألا إنّما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا عليّ لا آخذها أخذ [١٤٩ أ] الأشر البطر. وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهتر (٢). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

[تولّي الحجّاج قتال ابن الزبير]

ثم إنّ عبد الملك بن مروان بعث الحجّاج بن يوسف لقتال عبد الله في ألفين من أهل الشام- وقيل في ثلاثة آلاف- في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين. فنزل الطائف وبعث خيله إلى عرفة فقاتلت خيل عبد الله وهزمتهم مرارا. فقدم طارق بن عمرو مولى عثمان مددا للحجّاج في خمسة آلاف، وقد نزل الحجّاج بئر ميمون في ذي الحجّة. فنصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى ابن الزبير. وحجّ بالناس فلم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه من أجل أنّه لم يتمكّن من الوقوف بعرفة

ولا من الرمي بالجمار، بل نحر بدنة بمكّة.

وكانت الحجارة تقع بين يدي عبد الله وهو يصلّي فلا ينصرف.

قال هشام بن عروة [عن أبيه]: رأيت الحجر من المنجنيق يهوي حتى أقول: لقد كاد يأخذ لحية عبد الله بن الزبير [فقلت له: ] أي ابن أمّ، والله إن كان ليأخذ لحيتك!

فقال: دعني يا ابن أمّ، فو الله ما هي إلّا هنة حتّى كأنّ الإنسان لم يكن.

(قال أبي: ) ألا إنّي والله ما أخاف عليك إلّا من تلك الهنة!

وعن هشام بن عروة قال: رأيت ابن الزبير يرمى بالمنجنيق فلا يلتفت ولا يرعد صوته (قال) وربّما مرّت شظيّة منه قريبا من نحره.

وعن ابن أبي مليكة أنّه قال: والله ما رأيت أحدا أشدّ جلدا على لحم ولا لحما على عظم من ابن الزبير. وما رأيت أحدا أثبت قائما ولا أحسن مصلّيا من ابن الزبير. ولقد رأيت حجرا من المنجنيق جاء فأصاب شرافة من المسجد، فمرّت قذاذة منه بين لحيته وحلقه، فما زال من مقامه ولا غيّر [ ... ] ذلك في صوته.

وفي رواية: لقد قام يوما إلى الصلاة فمرّ حجر من حجارة المنجنيق بلبنة مطبوخة من شرفات المسجد، فمرّت بين لحيته وصدره، فو الله ما خشعلها بصره، ولا قطع لها قراءته ولا ركع دون الركوع الذي كان يركع. إنّ ابن الزبير كان إذا دخل في الصلاة خرج من كلّ شيء إليها. ولقد كان يركع فيكاد يقع الرّخم على ظهره، ويسجد فكأنّه ثوب مطروح.

وكان أهل الشام يقولون [الرجز]:


(١) حاشية: يقال: حبج بطنه: انتفخ.
وجاء في الهامش رواية مختصرة لهذا النعي، فيها:
ألا إنّه أتانا خبر قتل المصعب فسررنا واكتأبنا. فأمّا السرور فلما قدّر الله له من الشهادة وحيز له من الثواب.
وأمّا الكآبة فلوعة الحميم عند فراق حميمه. وإنّا والله ما نموت حبجا كميتة آل أبي العاصي. إنّما نموت والله قتلا بالرماح وقعصا تحت ظلال السيوف. فإن هلك المصعب فإنّ في آل الزبير خلفا منه.
(٢) المهتر بصيغة المفعول من أهتر الرجل: ذهب عقله من حزن أو مرض أو كبر. وفي الكامل والعقد: المهين عوض المهتر.

<<  <  ج: ص:  >  >>