للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[يوم] نتذاكر الزهّاد [١٥٦ أ] والعبّاد والعلماء، وما بلغ من فصاحتهم وزهدهم وعلمهم. فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا عمر بن نباتة فقال: فيم تتحاورون؟

قلنا: نتذاكر الزهّاد والعبّاد وفصاحتهم.

فقال عمر بن نباتة: والله ما رأيت رجلا قطّ أورع، ولا أخشع، ولا أفصح، ولا أصبح، ولا أسمح، ولا أعلم، ولا أكرم، ولا أجمل، ولا أنبل، ولا أفضل، من محمد بن إدريس الشافعيّ:

خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا، وكان الحارث بن لبيد قد صحب صالحا المزّيّ، وكان من الخاشعين المتّقين الزاهدين، وكان حسن الصوت بالقرآن. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: ٣٨ - ٤٠]. (قال): فرأيت الشافعيّ قد اضطرب وتغيّر لونه وبكى بكاء شديدا حتّى لصق بالأرض، فأبكاني والله قلقه وشدّة خوفه لله عزّ وجلّ. ثمّ لم يتمالك أن قال: إلهي، أعوذ بك من مقام الكذّابين، وأعلام الغافلين! إلهي، خشعت لك قلوب العارفين، وولهت بك همم المشتاقين! فهب لي جودك وجلّني سترك، واعف عنّي بكرم وجهك يا كريم! (قال): ثمّ قمنا وتفرّقنا.

[فصاحة الشافعيّ]

وقال أبو حاتم عن الأصمعيّ: ما هبت عالما قطّ ما هبت مالكا، حتّى لحن: فذهبت هيبته من قلبي. وذلك أنّي سمعته يقول: «مطرنا مطرا وأيّ مطرا» (١). فقلت له في ذلك، فقال: كيف لو رأيت ربيعة ابن أبي عبد الرحمن؟ كنّا إذا قلنا له:

«كيف أصبحت؟ » يقول: «بخيرا (كذا)»، وإذا

مالك قد جعل لنفسه قدوة يقتدي به في اللحن. ثمّ رأيت محمد بن إدريس في وقت مالك وبعد مالك، فرأيت رجلا فقيها عالما حسن المعرفة بيّن البيان عذب اللّسان، يحتجّ ويعرب، لا يصلح إلّا لصدر سرير أو ذروة منبر، وما علمت أنّي أفدته حرفا فضلا عن غيره. ولقد استفدت منه ما لو حفظ رجل أيسره، لكان عالما.

[بين الشافعيّ وبشر المريسيّ]

وعن الزّعفرانيّ قال: حجّ بشر المريسيّ سنة إلى مكّة، ثمّ قدم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا- يعني الشافعيّ-.

وقال ابن سريج عن أبي بكر بن الجنيد: حجّ بشر المريسيّ، ورجع فقال لأصحابه: رأيت شابّا من قريش ما أخاف على مذهبنا إلّا منه- يعنيالشافعيّ.

وقال داود بن عليّ: سمعت محمّد بن عتّاب، وكان من جلّة [١٥٦ ب] أصحاب المريسيّ، قال:

سمعت المريسي يقول: قد كلّمت بمكّة رجلا ما رأيت مثله، إن وافقكم لم تبالوا من خالفكم- يعني الشافعيّ.

وعن الحسن بن محمد الزعفرانيّ: حجّ بشر المريسيّ سنة، ثمّ قدم فقال: قد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا- يعني الشافعيّ. (قال): فقدم الشافعيّ علينا بعد ذلك بغداد، فاجتمع إليه الناس، وخفّوا عن بشر.

فجئت إلى بشر يوما وقلت: هذا الشافعيّ الذي كنت تزعم قد قدم.

فقال: إنّه تغيّر عمّا كان عليه.

(فقال الزعفرانيّ: ) فما كان مثله إلّا مثل اليهود في أمر عبد الله بن سلّام حيث قالوا: سيّدنا وابن سيّدنا.


(١) فوق مطرا الثانية رسم المقريزيّ كلمة: كذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>