للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يكبّرون ويهلّلون ويحمدون الله ويشكرونه. وركب المنصور فرسه وقد ظهر السرور في وجهه، وهو يحمد الله ويشكره حتى انتهى إلى فسطاطه، والناس يهنّئونه بما فتح الله له ونصره وأعزّه. فأمر الناس بالانصراف ودخل، فوجد أبا يزيد ملقى ورأسه في حجر جعفر بن علي الحاجب، فأعرض عنه ودخل إلى مضربه وأمر بمعالجة أبي يزيد من جراحاته ووكّل به من يحفظه.

وكتب بالفتح إلى الآفاق فكانت نسخة الكتاب إلى مدام من إملائه بنفسه بعد الصدر:

[[رواية المنصور للأحداث]]

«أمّا بعد، فالشكر والحمد لله ربّ العالمين الذي نصر عبده وأنجز له وعده، وتفرّد بالمنن عليه وحده فأظهرني جلّ ثناؤه متوّجا بعزّته [١٩٤ ب]، رافلا في حلل كرامته، مبوّأ من الشرف ذراه، ومن المجد أعلاه، بعد أن زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠]، وظنّ العباد بالله الظنون، فجلّى بي الظلام، وأنقذ الأنام، وأثبت الإسلام، وجمع الأمم بعد الفرقة، وأمّنهم بعد المخافة، وأعزّهم بعد الذلّة، فحقن بي الدماء، وسكّن الدهماء، وأيّدني بنصره وإعزازه، فاعترف لي به المؤمن المساعد، والكافر المعاند، لقصر طاقة المخلوقين عن بلوغ ما أملوه، وإدراك ما حاولوه، فضلا من هذه النعمة الجليلة، والمنن الجزيلة التي حقّقت الآمال وقطعت أطماع الدجّال، فأصارها الله إليّ كلّها،

ورآني أهلها.

«فلم أزل، منذ انتصبت للجهاد في سبيله، وأهدفت نحري دون دينه، باذلا نفسي، متعبا جسمي، مستصغرا لكلّ عظيم، راكبا لكلّ هول، متعرّفا من الله أجمل الصنع، وأحسن التوفيق في كلّ شيء أمّمته، ورأي ارتأيته، وموقف حرب وقفته، إلى أن أتمّ الله عليّ النعمة، وأكمل المنّة، بالإمكان من عدوّ الله الخائن أبي يزيد، أسيرا ذليلا، بعد حرب شديد كان بيننا وبينه ثلاثة أيّام متتابعة لم يكن قبلها مثلها.

«بدأنا إليه بالزحف يوم الخميس لثمان بقين من المحرّم، طلوع الشمس، فقاتلناه قتالا شديدا إلى بعض العصر. ثمّ عاودناه القتال صبيحة السبت.

وأيقنوا بالهلاك، واشتدّ القتال في وعر شديد، فجعلوا يلقون علينا الصخور العظيمة لا تمرّ بفارس ولا راجل إلّا صيّرته رميما، والله يدفع ذلك عنّا بمنّه ويكلؤنا بعينه. فلم نزل من أوّل النهار حتّى كلّ الناس وملّوا من حرّ يسقط طيور الجوّ منه، وتقطّع الأولياء جراحا، وأثخنوا بالحجارة، وهابوا الإقدام فأغضبني ذلك فزجرتهم وتوعّدتهم وتقدّمت بنفسي واثقا بالله ربّي، ومعي مطحّية (١) فيها أكثر من ثلاثة آلاف فارس ونيف على عشرة آلاف راجل. ورأى العدوّ إقدامي إليهم فأيقنوا بالهلكة، وانهزموا بين يديّ حتّى توسّطت الوعر الشديد الهائل إليهم، فظنّوا أنّهم قد ظفروا بما دبّروه، فحملوا علينا حملة رجل واحد ردّت كلّ من كان معي، وأسلموني فقصدني الفسقة وتعاوروني بالسيوف والحجارة والرماح. وثار عجّاج مظلم طبّق الأرض فوصلوا [إليّ حتّى


- حسب السياق: عليل، مريض، منكوب، مصاب إلخ.
انظر بحث عبد الله كنون في الدورة ٢٨ (١٩٦١ - ١٩٦٢) لمجمع القاهرة ص ٢٧، وملاحظات الشيخ الفاضل ابن عاشور في رسالة إليه نشرها عبد الصمد عشاب من طنجة في ملحق الحرّيّة الثقافي، تونس ٢١/ ٦ ٢٠٠١.
(١) طحّى بالتشديد: مدّ ونشر، وأيضا أهلك. فالمطحيّة هي القاضية المهلكة. ولعلّها مطحنة: اسم آلة، من طحنتهم الحرب، أي أبادتهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>