فلمّا تمّ ذلك دعا حسّان [بن مالك] بن بجدل خالدا، فقال: يا ابن أختي إنّ الناس قد أبوك لحداثة سنّك، وإنّي والله ما أريد الأمر إلّا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مروان إلّا نظرا لكم.
فقال خالد: بل عجزت عنّا.
فقال: والله ما أنا عجزت، ولكن الرأي لك ما رأيت.
[تخلّي خالد عن طلب الخلافة]
ثمّ إنّ مروان تزوّج بفاختة أمّ خالد ليسقطه من أعين الناس، وقام على المنبر بعد ما بايعه الناس فقال: إنّا آمرون لكم بالعطاء، وبانون بأمّ خالد، وسائرون إلى مصر إن شاء الله.- فقدم معه خالد إلى مصر وقال، وهو بها: مضت الخمس والعشر، وبقيت العشرون يعمّ شرّها مشرقها ومغربها، لا ينجو منها إلّا أهل أنطابلس.
فتقدّم إليه رجل فقال: أصلحك الله، ما هذه الخمس والعشر والعشرون؟
قال: الفتنة الأولى كانت خمسا. والثانية عشرا، فتنة ابن الزبير، ثمّ تكون الثالثة عشرين سنة يعمّ شرّها مشرقها ومغربها، لا ينجو منها إلّا أهل أنطابلس (١).
ثمّ سار مع مروان إلى دمشق. وخرج مع عبد الملك بن مروان لمّا بويع بعد أبيه بالخلافة، ونزل معه على قرقيسيا، وبها زفر بن الحارث الكلابيّ يدعو إلى عبد الله بن الزبير. فجدّ خالد في قتاله وأبلى بلاء كثيرا، فقال بعض أصحاب زفر:
لأقولنّ لخالد كلاما لا يعود [بعده] إلى ما يصنع.
فلمّا خرج خالد للمحاربة قال له الرجل، وكان
من بني كلاب [رجز]:
ماذا ابتغاء خالد وهمّه ... إذ سلب الملك ونيكت أمّه؟
فاستحيى خالد ومضى من موقفه ولم يعد لقتالهم.
[إشارته بإنشاء سكّة إسلاميّة]
وخالد هو الذي أشار على عبد الملك بن مروان أن يترك دنانير الروم ويضرب للناس سكّة فيها ذكر الله. فضرب عبد الملك حينئذ الدنانير والدراهم. وقيل إنّ خالدا قال له: يا أمير المؤمنين، إنّ العلماء من أهل الكتاب يذكرون أنّهم يجدون في كتبهم أطول الخلفاء عمرا من قدّس الله في الدرهم.- فعزم عند ذلك عبد الملك وضرب السكّة الإسلاميّة.
وكان خالد يسمّى حكيم آل مروان، فإنّه كان فاضلا في نفسه، وله همّة ومحبّة للعلوم وشغف بصنعة الكيمياء. فأحضر عنده من حكماء مصر الذين أتقنوا الفلسفة وعرفوا لغة العرب مع اللغات القديمة [لا] سيّما لغة اليونان وأمرهم [بنقل] كتب النجوم والطبّ والكيمياء من اللسان اليونانيّ والقبطيّ إلى العربيّة، فعرّبوا له ذلك، وهو أوّل نقل وقع في الإسلام [٤٣٦ أ] من لغة إلى لغة.
وكان من خطباء قريش، وكان شاعرا فصيحا معا، جيّد الرأي كثير الأدب. ويروى أنّ عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالد بن يزيد فقال: يا أخي، لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك.
فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين ووليّ عهد المسلمين!
فقال: إنّ خيلي مرّت به فعبث بها يريد حذف آذانها، وأصغرني.
(١) أنطابلس (- خمس مدن) بين الإسكندرية وبرقة (ياقوت).