باب القلعة إلى الديوان، وجيء بالرسل، فسلّموا، وقام ابن يونس فخطب خطبة بليغة وجيزة في معنى الصلح دعا فيها للسلطان ولغازان والأمراء، وأخرج كتاب غازان مختوما. فلم يفتح، وأخرج الرسل إلى مكانهم ولم يفتح الكتاب إلى ليلة الخميس، وهو في قطع نصف البغداديّ مكتوب بالقلم المغلي ويتضمّن: أنّ عساكر مصر أتت في العام الماضي إلى أطراف بلاده وأفسدت، فأنف من ذلك وقدم إلى الشام وهزم العساكر، ثمّ عاد ولم يخرج إليه أحد. فرجع شفقة على الناس حتى لا تخرب البلاد، وأنّه مستعدّ للحرب، وداع إلى الصلح.
فكتب الجواب [٩٠ ب] وجهّز [هـ] مع الأمير شمس الدين محمد ابن التيتي، والخطيب عماد الدين ابن السكّريّ، والأمير حسام الدين أزدمر المجيريّ.
[الحملة ضدّ العربان بالصعيد]
ولمّا دخلت سنة إحدى وسبعمائة اشتدّ فساد العربان بالصعيد وكثر قطعهم الطريق وفرضوا على التجّار وأرباب المعايش بمدن الصعيد أموالا تجبى منهم، ومنعوا الخراج، وأقاموا لهم أمراء سمّوا بعضهم بيبرس وبعضهم سلّار، ولبسوا السلاح وأخرجوا أهل السجون. فجمع القضاة والفقهاء واستفتوا فيهم، فأفتوا بقتالهم وقتلهم. فأخذ الأمراء في الحركة لحربهم. وأوّل ما بدءوا به أخذ الطرق على العربان حتّى لا يمتنعوا بالجبال والمفازات. ورسم لناصر الدين محمد ابن الشيخيّ متولّي الجيزة، وإلى والي أطفيح بمنع الكافّة من السفر إلى الصعيد في البرّ والبحر، وهدّد أنّه متى ظهر أنّ أحدا من الناس سافر إلى الصعيد كانت روحه وأرواح الولاة قبالة ذلك. فاشتدّ الحرص على ما رسم به، وأشيع بأنّ الحركة إلى بلاد الشام. وتعيّن للسفر عشرون أميرا من أمراء الألوف بمضافيهم، وأن يكونوا أربعة أقسام: قسم يسير في برّ الغرب، وقسم في برّ الشرق، وقسم يركب النيل، وقسم يتوجّه في الطريق السالكة، وأن يخرج سنقر الأعسر في طائفة من الأمراء إلى جهة الواحات. وتأخّر عند السلطان أربعة منالأمراء، وأنّ الذين يتوجّهون إلى الصعيد يضع كلّ منهم سيفه فيمن يراه من صغير وكبير، وجليل وحقير، ولا يترك شيخا ولا صبيّا، وأن يوقع الحوط على سائر الأموال. وكان أمر الدولة حينئذ مضبوطا. فتمّ لهم ما قصدوه. وساروا من القاهرة للنصف من ربيع الأوّل، وقد عميت الأخبار على العربان.
فطرقوا بلاد الصعيد بغتة على حين غفلة من أهلها، ووضعوا السيف من الجيزة بالبرّ الغربيّ، ومن إطفيح بالبرّ الشرقيّ، فلم يتركوا أحدا من العربان إلّا قتلوه، وأخذوا ماله وسبوا حريمه، فإذا ادّعى أنّه من الحضر امتحن بأن يقول:«دقيق»، فإن عقد القاف (١) قتل. ووقع الرعب في قلوب العرب حتى طبّق الأمراء عليهم من كلّ ناحية فرّوا لها، وأخرجوهم من خباياهم وقتلوهم بجانبي النيل من الجيزة وإطفيح إلى قوص. وعثروا بمن احتمى منهم بمغاور الجبال فدخنوا عليهم بالنار حتى هلكوا عن آخرهم. وأسر منهم ألف وستّمائة رجل لهم زراعات، وأخذ من أموالهم ما لا ينحصر، وتفرّقته الأيدي وصار للديوان منه [٩١ أ] ستّة عشر ألف رأس من الغنم، وثلاثة آلاف رأس من الخيل، واثنا عشر ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، سوى ما أرصد في معاصر قصب السكر، ومن السلاح مائة وستّون حملا. وذلك
(١) في النجوم ٨/ ١٥٣: فإن قال بالكاف لغة العرب قتل، وإن قال بالقاف المعهودة، أطلق.