الأمور دونه. وقالوا: إنّ مقامك أرفق بأصحابك وأقدر لهم على الميرة، والزمن شتاء وبرد.
فتعتصم بالبيوت وتقوى على المماطلة.
فقال: إنّ الرأي غير ما رأيتم: إنّ أهل الريّ لعليّ هائبون، ومن سطوته مشفقون، ومعه من أعراب البوادي وصعاليك الجبال كثير. ولست آمن إن أقمت بالريّ أن يثب أهلها بنا خوفا من عليّ. وما الرأي إلّا أن نسير إليه، فإن ظفرنا، وإلّا عوّلنا عليها فقاتلناه فيها إلى أن يأتينا مدد.
[[القتال بين طاهر بن الحسين وابن ماهان]]
ثمّ نادى في أصحابه، وخرج من الريّ في أقلّ من أربعة آلاف فارس، وعسكر على خمسة فراسخ، فأتاه أحمد بن هشام صاحب شرطه وقال له: إن أتانا عليّ بن عيسى فقال: «أنا عامل أمير المؤمنين» وأقررنا له بذلك، فليس لنا أن نحاربه.
وساروا. فقال له بعض أصحابه: إنّ جندك قد هابوا هذا الجيش. فلو أخّرت القتال إلى أن يشامّهم أصحابك ويأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم؟
فقال له طاهر: لم يأتني في ذلك شيء.
فقال: دعني وما أريد!
قال: افعل.
فصعد المنبر فخلع الأمين ونادى للمأمون بالخلافة.
فقال: إنّي لا أؤتى من قلّة تجربة وحزم: إنّ أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم. فإن أخّرت القتال اطّلعوا على [١١٩ أ] قلّتنا، واستمالوا من معي برغبة ورهبة فيخذلني أهل الصبر والحفاظ. ولكن ألقى الرجال بالرجال، وأقحم الخيل على الخيل، وأعتمد على الطاعة والوفاء فأصبر صبر محتسب للجنّة حريص على الفوز بالشهادة. فإن نصرنا الله فذاك الذي نريده ونرجوه. وإن تكن الأخرى، فلست بأوّل من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال علي بن عيسى لأصحابه: بادروهم، فإنّهم قليل، ولو وجدوا حرارة السيوف وطعن الرماح لم يصبروا عليها.
وعبّأ جنده ميمنة وميسرة وقلبا، وعبّأ عشر رايات مع كلّ راية ألف رجل وقدّمها راية راية، وجعل بين كلّ رايتين غلوة سهم. وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى فطال قتالهم أن تتقدّم التي تليها وتتأخّر هي حتى تستريح. وجعل أصحاب الجواشن أمام أصحاب الرايات، ووقّف في القلب شجعان أصحابه.
وعبّأ طاهر أصحابه كراديس، وسار بهم يحرّضهم ويوصيهم ويرجّيهم فهرب من أصحابه جماعة إلى عليّ فجلد بعضهم وأهان الباقين، فكان ذلك ممّا ألّب بقيّتهم (١*) على قتاله.
وزحف الناس بعضهم لبعض، فقال أحمد بن هشام لطاهر: ألا تذكّر عليّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون خاصّة، معاشر أهل خراسان؟
فقال: افعل.
فأخذ البيعة فعلّقها على رمح وقام بين الصفّين، وطلب الأمان فأمّنه علي بن عيسى، فقال: ألا تتّقي الله عزّ وجلّ؟ أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة؟ أتّق الله، فقد بلغت باب قبرك!
فقال عليّ: من أتاني به فله ألف درهم!
فشتمه أصحاب أحمد. وخرج من أصحاب عليّ رجل فحمل عليه طاهر وأخذ السيف بيديه وضربه فصرعه. فلذلك سمّي طاهر «ذا اليمينين».
(١*) عليّ بن هامان هو الذي جلدهم وأهانهم.