للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلى منزله، فنزع ثيابه وأنفذها كلّها إلى جوهر، ما عدا السراويل والخاتم. وأنشد أبو القاسم محمد بن هاني قصيدة بديعة في يوم رحيل جوهر، وكان من أيّام الله العظيمة المهولة، منها [الطويل]:

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع

غداة كأنّ الأفق سدّ بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

فلم أدر إذ ودّعت كيف أودّع ... ولم أدر إذ شيّعت كيف أشيّع

ألا إنّ هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع

٥ إذا حلّ في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض ثوت وهي بلقع

تحلّ بيوت المال حيث يحلّه ... وجمّ العطايا والرواق المرفّع

وكبّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظلّ السلاح المنتضى يتقعقع

وعبّ عباب الموكب الفخم حوله ... وزفّ كما زفّ الصباح الملمّع

رحلت إلى الفسطاط أوّل رحلة ... بأيمن فأل بالذي أنت تجمع

١٠ فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهمع

ويمّمهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم، لكن يزيد فيوسع

[٣٥٩ ب] وفي غد رحيل جوهر هرب من البربر خمسمائة فارس، فخرج في طلبهم ففاتوه. فقال المعزّ: الله أكرم من أن ينصرنا بأراذل البربر، وإنّي لأرجو أن يكون بزوالهم زوال النحس عن عسكرنا.

[تحرّك جوهر إلى مصر]

وأقام جوهر بمكانه إلى يوم الأحد لستّ بقين من شهر ربيع الأوّل [سنة ٣٥٨]. ثمّ رحل بجميع العساكر في قوّة عظيمة، ومعه من الأموال والسلاح والعدد والكراع ما لا يوصف كثرة. فلم يزل سائرا حتّى وصل إلى برقة. فافتدى منه أفلح الناشب الصقلبيّ (١) متولّي برقة بخمسين ألف دينار يحملها إليه ويعفيه من أن يمشي في ركابه، فامتنع جوهر من قبول ذلك، وأبى إلّا أن يمشي راجلا بين يديه، فلم يجد أفلح بدّا من المشي لمّا لقيه حتى نزل.

وأتت الأخبار إلى مصر في جمادى الآخرة [سنة ٣٥٨] بمسير جوهر إليها. وكان في عامّة أرض مصر حينئذ من الشدّة والغلاء والوباء أمر لم يعهد قبله مثله، بحيث إنّه أحصي من مات في أيّام يسيرة فكانوا ستّمائة ألف إنسان، وكانوا يلقون الغرباء في النيل، وبلغ الفرّوج دينارا والبيضة درهما، وبيع الإردبّ (٢) [من] القمح بثمانين دينارا، مع كثرة الفتن وتغلّب كلّ أحد من العمّال وغيرهم على ما يليه، واختلاف أهل الدولة بمصر من الإخشيديّة والكافوريّة، وكثرة تحاسدهم، وعظم الخوف من هجوم القرامطة على مصر، وكانوا قد انتشروا ببلاد الشام. فاختلّت من أجل هذا وشبهه الأحوال بديار مصر، واتّضعت أمور الناس، وتغيّرت نيّاتهم وساءت معاملاتهم، وفسدت أكثر أوضاعهم، وشمل الخراب عامّة أرض مصر لموت أهلها، وقلّة أموالها، وتعذّر وجود الأقوات، وكثرة الخوف.

وكان بمصر جماعة من دعاة المعزّ. قد استمالوا خلائق من القوّاد ووجوه الرعيّة، وأنفذ


(١) أفلح الناشب له الترجمة رقم ٨٠١.
(٢) الإردبّ: كيل للحبوب مستعمل بمصر ويساوي ١٥٠ كيلو غراما.

<<  <  ج: ص:  >  >>