ثمّ عاد بكّار إلى أحمد بن طولون بغير طائل.
فلمّا أخذ العبّاس وأسر أصحابه بعد ما أمّنهم أحمد بن طولون، رأى بكّار أن لا أمان لهم:
وذلك أنّ أحمد بن طولون أمّنهم خوفا من النهب وسفك الدماء وهتك الحريم [٢٥٢ ب]، فلم ير بكّار هذا أمانا. وعارضه يزيد بن محمد بن عبد الصمد، ورأى أنّهم آمنون وذكر قوله عليه السلام: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم» (١)، فأسكته أحمد بن طولون، وقال: أهل الفقه أدرى بهذا منك. وأمر باكتتاب محضر بما رآه بكّار وقتلهم.
[[غضب ابن طولون عليه وسجنه]]
ولمّا بلغ أحمد بن طولون القبض على المعتمد ومنعه في دارا، استدعى بكّارا من مصر إلى دمشق، فاجتمع بها مع من حضر لخلع الموفّق، فلم يكن منه ما يرضاه أحمد بن طولون. فتغافل عنه وأسرّها في نفسه إلى أن قدم مصر. فأمر بكشف بكّار وأوقفه للناس وأمر بسجنه في جمادى الآخرة سنة سبعين ومائتين، وذلك بعد ما خرّق سواده. ثمّ أحضر قيس بن حفص كاتب بكّار وأصحابه وأمرهم برفع حساب ما جرى على أيديهم.
فاجتمع أصحاب الحديث إلى أحمد بن طولون وشكوا [٢٨٠ أ] إليه انقطاع سماع الحديث من بكّار، وسألوه أن يأذن له في الحديث، ففعل.
وكان بكّار يحدّث وهو في السجن. وفي كلّ يوم جمعة يلبس ثيابه ويتأهّب للرواح فيقول له الموكّل به:
أعذرني أيّها القاضي، ما أقدر- فيقول: اللهمّ اشهد! .
ثمّ إنّ ابن طولون بعث إليه يقول: إنّك زعمت أنّ المحجور عليه يأمر وينهى ويكتب ويكاتب. فكيف رأيت حال الممنوع ممّا يريد؟ أنت أيضا أوردت عليّ كتابا من الخليفة بتقليدك القضاء فأنفذت ذلك لك. والآن فقد منعتك حتى تورد عليّ كتابا منه بردّك فأردّك حينئذ.
فلم يزل في السّجن حتى مات أحمد بن طولون، وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون فأخرجه من الحبس فيمن أخرج من أرباب الجرائم والتّهم. فلم يتمّ له شهر بعد إطلاقه حتى مات.
وقال أبو عمر الكنديّ: إنّ بكّار [ا] القاضي أطلق في شعبان سنة سبعين، وذلك يقتضي أن أحمد بن طولون هو الذي أطلقه لأنّه مات في ذي القعدة سنة سبعين، والله أعلم.
[ندم ابن طولون على سوء معاملته لبكّار]:
وقال أحمد بن يوسف الكاتب: حدّثني نسيم الخادم قال: دعاني أحمد بن طولون، وقد مضت قطعة من الليل، قبل وفاته بشهر واحد، فقال لي: ادخل إلى بكّار بن قتيبة، فإن كان يصلّي فانظر فراغه من ركعته، ثمّ قل له: أنت تعلم ميلي إليك قديما وإكرامي لك، وأنّه لم يفسد محلّك عندي إلّا أمرالخلع، فإنّ شهادتك فيه شهادة مغلّب للتّقيّة، وقد شاع في عسكري أنّك نقمت هذا الخلع. وو الله ما انحرفت عن الناكث لانحراف قلب ولا إساءة اعتدتها له ولا أردت بخلعه إلّا الله عزّ وجلّ، لأنّه أسر الخليفة ومنعه ما يجب له. والصواب أن تحضر مجلسي ويجتمع فيه أولياء أمير المؤمنين وتتبرّأ من الناكث براءة تدلّ على صدق
(١) الحديث في سنن ابن ماجة ص ٨٩٥ رقم ٢٦٨٣.