يدخلها. فبكى وأخرج إبريقين، أحدهما جديد لم يستعمل، والآخر دنس من طول الاستعمال وقال:
أيّهما أحسن؟ - يعني أنّ المخاطبة للناس تدنّس الإنسان حتّى يصير مثل الإبريق العتيق.
ويحكى أيضا أنّ الشيخ مسلّم (١) كان بدسوق، فبينما هو والشيخ إبراهيم يتحادثان إذ أقبل رجل أغبر، فتغيّر الشيخ مسلّم عند رؤيته وقال: «هذا الرجل يسلب الفقير ما يكون معه من السرّ». فلمّا دنا منهما قال إبراهيم: «يا أرض، خذيه فابتلعيه! » [فابتلعته] إلى حنكه.
فقال: كرامة يا شابّ!
فقال له إبراهيم: لولا الكرامة لأخذتك الأرض السابعة!
ثمّ أخرجه من الأرض. فترك مسلّم دسوق وسار إلى القاهرة وأتته الفقراء فوقف تحت قلعة الجبل في نحو الألف فقير. فقدّم له السلطان طعاما فيه لحم ما بين مذكّي وميّت، ليمتحن الشيخ مسلّم [ا]. فميّز مسلّم الحلال من الحرام في ذلك المجلس بعد أن قال للفقراء: «[أ] مدوّني بخواطركم! » فكان إبراهيم الدسوقيّ يقول: لا إله إلّا الله! كرامة واحدة حصلت لأخي مسلّم مع مساعدة الفقراء، والعرب لا يروغون عليه. وأنا في كلّ يوم كرامات كثيرة تحصل لي، والحضر يروغون عليّ، ويسعى بي إلى السلطان الملك الأشرف خليل ابن قلاوون بما يقبضني عليه.
[[إذعان الوحوش له]]
فبعث إليه شهدا فيه سمّ. فلعقه الفقراء لمّا قيل لهم إنّه شهد، وقالوا: شهد إن شاء الله! - فلم يؤثّر
فيهم. فبعث إليه السلطان بالأمير عزّ الدّين أيبك الأفرم. فلمّا دخل عليه قال له: اجلس في خيمتك! فلم يقدر على الحركة. فلمّا أبطأ على السلطان تغيّر، وبعث بالسبع ليفترس الشيخ.
فندب إليه خادمه يونس فتلقّاه وأمر السبّاع بإطلاقه من السلسلة الحديد التي يقود بها. فأنكر السبّاع ذلك وقال: نحن بهذه السلسلة في عنقه وهو مع ذلك يتعبنا، فكيف نطلقه منها؟
فمدّ يونس يده إلى فم السبع وأدخلها فيه فلم يضرّه. فخلّى عنه حينئذ سبّاعه حتى صعد به غرفة الشيخ وقام بين يديه. فقال السبّاع: يا سيّدي هذا السبع [٥٣ أ] أكل ولدي!
فقال: يا أبا الحارث، أكلت ولد صاحبك؟
فزمجر السبع، ثمّ سكت. فقال الشيخ: قال:
بلى! إنّك تأكل عليقته، فلمّا جاع أكل ولدك.
فاعترف بذلك وتاب منه. ثمّ أخذ سبعه ومضى عائدا وترك السلسلة عند الشيخ، فجعلت على ضريحه بعد موته.
فتنكّر السلطان وسار إلى الشيخ لمّا بلغه ذلك، وليس معه سوى رجلين. فلمّا دخل عليه بعد العصر مع الزوّار أحسّ من نفسه كأنّه قد صار في قيد فلم يقدر على الحركة حتّى خرج الزوّار. فقال له الشيخ: يا خليل، تعال إلى هنا!
فقال: يا سيّدي، مقيّد!
فقال: ما بقي قيد! قم!
فقام. وسأل الشيخ أن يوقف عليه دسوق وعدّة بلاد. فقال: لا! هذه الجزيرة، إذا فتح الله فيها، كفت الفقراء- وكانت قدر فرش حصير- ولم يقبل شيئا.
فعاد السلطان إلى كلامه في البلاد، وأنّه يجعلها
(١) الشيخ مسلّم السلمي أبو داود: انظر جامع كرامات الأولياء ج ٢/ ٢٥٣ حيث رويت قصة اللحم الحلال واللحم الحرام.