فمه ورأسه حتى نام، والساعي يكتب كلّ ما سمعه من كلمة صدرت عنه. ثمّ بكّر بالغداة إلى أحمد بن طولون ووضع الورقة بين يديه. فلمّا قرأها ضحك ساعة وتغيّظ أخرى. وأمسك حتى دخل إليه، فلمّا حاول القيام مع نظرائه قال له:
اجلس! - فلمّا لم يبق أحد قال له: أسأت إليك؟
قال: لا والله يا مولاي.
قال: ألم أوال أرزاقك وأدرّ إحساني إليك؟
قال: نعم يا سيّدي.
قال: فإيش هذا الذي تقوله على النبيذ؟ قلت البارحة كذا وكذا، وما زالت جاريتك تسكتك وما تسكت.- وتلا عليه ما كان في الرقعة.
فرفع التركيّ رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ، قدّمته علينا في المرتبة، وجعلت أرزاقنا تحت يده، فرضينا. فإيش كان هذا الكلام تفضّحت له به؟
فضحك أحمد بن طولون على شدّة وقاره ضحكا استحيى منه. ثمّ أخرجه إلى طرسوس.
[[حنكته العسكرية]]
ولمّا شخص إلى طرسوس في سنة خمس وستّين ومائتين، ونابذه أهلها، ركب في أصحابه وقال لهم: لا تنابذوهم، وانهزموا عنهم!
ففعلوا. وقال له بعض قوّاده: إنّك كسرت قلوبنا عن منابذتهم، وليس بنا ضعف؟
فقال له: ويحك! إنّه لم يخف عن متملّك الروم العدّة التي دخلت فيها طرسوس، وما هي عليه من القوّة والنجدة. فأحببت أن يستقرّ عنده أنّنا نضعف عنهم ولا نقاومهم بما أظهرته من توقّفكم عنهم. وعزّهم فهو لله، وعزّكم فهو لي، وأنا أحرى به.
واتّفق له لمّا كان بطرسوس أنّه اجتمع فيها برجل كان يعرفه قديما، ممّن خرج عن نعمته فصار يعمل الحزم ويقتات منها ويرابط. فقال له:
ما الذي أنكرت من ربّك حتى شردت عنه هذا الشرود؟ واعلم أنّك مع تباعدك عنه لم تخرج عن قبضته. فارحم نفسك من [٩٣ ب] تحميلها ما لا تحتمل، فإنّ جدّه عزّ وجل يمحّص هزلك، وأدلّته تحيل خدعك. ولا تستكثر من هذه الدنيا ما لا يخفّ حمله معك إذا دعاك. واعلم أنّك مردود إلى الله عزّ وجلّ بعملك وحده، وأنّ ما غادرته متخلّف عنك- وأحمد بن طولون لا يزيد على البكاء.
ثمّ التفت الرجل وقال لرجل كان مع أحمد:
[أ] ما ترى الناس كيف يتضوّرون تحت الأقدار العلويّة؟
ثمّ رفع يده إلى السماء وقال: اللهمّ، انصره ورشّده وارحمه من سخطك عليه! انصرف في حفظ الله وكلاءته، فإنّني أخاف أن تغريني بحبّ الدنيا وطاعة الشهوات. فلست أنساك عند ذكري لك إن شاء الله.
وكان مع أحمد كاتب السرّ فكتب كلّ ما نطق به الزاهد.
وكان أحمد بن طولون إذا أراد إنفاذ أحد في رسالة أمر كاتب السرّ بتحرير تلك الرسالة. فإذا حضر الرسول ليودّعه قال له: ما الذي تقول لمن وجّهت [ك] إليه؟
فإذا أدّاها كما تحرّر أنفذه، وإن قصّر عنها حبسه واستبدل غيره.
وكان أكثر مبيته في قبّة الهواء وحده بغير حرمه. فيمضي الليل وهو جالس يفكّر. فقال له نسيم الخادم: إنّ سيدي الأمير لا ينام إلّا قريبا من الفجر، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم.
فقال له: ويحك! إني حملت أهل هذا البلد