يا ابن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عنّيتنا إليكا
لتجزينّ بالذي أتيكا (١)
وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا: قدمنا لنقاتل معك.- فنظر فإذا مع كلّ امرئ منهم سيف كأنّه شفرة، وقد خرج من غمده. فقال: «يا معشر الأعراب، لاقرّبكم الله! والله إنّ سلاحكم لرثّ، وإنّ حديثكم لغثّ، وإنّكم لعيال في الحرب، أعداء في الخصب». فتفرّقوا عنه.
ولم يزل القتال بينهم دائما، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتّى ذبح ابن الزبير فرسه وقسم لحمه بين أصحابه. وبيعت دجاجة بعشرة دراهم، والمنّ الذرة بعشرين درهما. ومع هذا كانت بيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا. وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده فكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: نفوس أصحابي قويّة ما لم يفن هذا.
فلمّا كان قبيل مقتله تفرّق الناس عنه وخرجوا إلى الحجّاج بالأمان، فخرج من عنده نحو عشرة آلاف، منهم ابنه حمزة، وابنه خبيب، أخذا لأنفسهما أمانا. فقال عبد الله لابنه الزبير: يا بنيّ، خذ لنفسك أمانا كما فعل أخواك. فو الله إنّي لأحبّ بقاءكم.
فقال: ما كنت لأرغّب نفسي عنك.
فصبر مع أبيه إلى أن قتل بين يديه.
[[تثبيت أسماء بنت أبي بكر لابنها]]
وقوي الحجّاج وانتشر أصحابه من الحجون إلى أبواب المسجد. فدخل عبد الله على أمّه أسماء
بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وهي بنت مائة سنة فقال: يا أمّاه، قد خذلني الناس، حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلّا اليسير، ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة. والقوم يعطونني ما [١٤٩ ب] أردت من الدنيا، فما رأيك؟
قالت: أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ وأنّك تدعو إليه فامض له، فقد قتل عليه أصحابك. فلا تمكّن من رقبتك تتلعّب بها غلمان بني أميّة. وإن كنت إنّما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك ومن قتل معك. وإن قلت:
كنت على الحقّ، فلمّا وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن!
فقال: يا أمّاه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثّلوا بي ويصلبوني.
قالت: يا بنيّ، إنّ الشاة لا تتألّم بالسلخ بعد الذبح. فامض على بصيرتك، فإنّك على الحق.
واستعن بالله.
فقبّل رأسها وقال: هذا رأيي، والذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا ما ركنت ولا أحببت الحياة فيها. وما دعاني إلى الخروج إلّا الغضب لله وأنتستحلّ حرماته. ولكنّي أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة. فانظري يا أمّاه فإنّي مقتول في يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك وسلّمي لأمر الله فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكمه، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمّالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضى ربّي. اللهمّ إنّي لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن أقول تعزية لأمّي حتّى تسلو عنّي.
فقالت: إنّي لأرجو أن يكون عزائي فيك
(١) في الكامل ٤/ ٢٣: يعنون: عصيت وأتيت. وفي الخزانة ٤/ ١٤٢٨ جاء الشطر الثالث: لنضربن بسيفنا قفيكا.