(قال إسحاق): فتناظرنا في الحديث، فلم أر أعلم منه. ثمّ تناظرنا في الفقه فلم أر أفقه منه. ثمّ تناظرنا في القرآن فلم أر أقرأ منه. ثمّ تناظرنا في اللغة فوجدته بيت اللغة، وما رأت عيناي مثله قطّ، حتّى تمنّيت أن أكون سربا لبيانه في سرحه.
(قال): وخرجنا من عنده، فالتفت إليّ أحمد وقال: يا أبا يعقوب، كيف رأيت الرجل؟
فقلت: راجحا وافرا، زاد الله مثله في المسلمين!
[[شهادة أحمد بن حنبل]]
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال لي أبي:
كنت أجالس محمّد بن إدريس الشافعيّ بمكّة، فكنت أذاكره بأسماء الرجال. فقال: روينا عن عمر بن الخطّاب عن أهل المدينة عن فلان عن فلان عن فلان، وفلان بن فلان- فلا يزال يسمّي رجلا رجلا، وأسمّي له جماعة، ويذكر هو عددا من أهل مكّة، وأذكر أنا جماعة منهم- (قال عبد الله): وكان أبي يصف الشافعيّ [١٥٥ أ] فيطنب في وصفه، وقد كتب أبي عنه حديثا صالحا، وكتب من كتبه بخطّه بعد موته أحاديث عدّة ممّا سمعه من الشافعيّ.
وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو عثمان الخوارزميّ فيما كتب إليّ، وسمعت محمّد بن الفضل البزّاز قال: سمعت أبي يقول:
حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلت في مكان واحد معه- يعني بمكّة- فخرج أبو عبد الله- يعني أحمد بن حنبل- باكرا، وخرجت أنا بعده. فلمّا صلّيت الصبح درت المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة. فكنت أدوّر مجلسا مجلسا طلبا لأبي عبد الله حتّى وجدته عند شابّ إعرابيّ، وعليه ثياب مصبوغة وعلى رأسه جمّة (١). فزاحمت حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله، تركت ابن عيينة، وعنده الزهريّ، وعمرو بن دينار، وزياد بن علاقة، وما الله به عليم! ؟
فقال لي: اسكت! فإن فاتك حديث بعلوّ تجده بنزول لا يضرّك في دينك ولا في عقلك- أو قال:
في فهمك- وإن فاتك عقل هذا الفتى، أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة! ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشيّ!
قلت: من هذا؟
قال: محمد بن إدريس الشافعيّ.
وقال الربيع: سمعت الحميديّ يقول: قال لي أحمد بن حنبل: تعال حتّى أذهب بك إلى رجل لم تر عيناك مثله! - فذهب بي إلى الشافعيّ.
وعن الحميديّ: قلت لأحمد بن حنبل: الليلة يقعد سفيان بن عيينة.
فقال: الليلة يقعد الشافعيّ.
قلت: سفيان يفوت، والشافعيّ لا يفوت.
قال: الشافعيّ يفوت، وسفيان لا يفوت.
(قال): فحضرنا مجلس الشافعيّ، فلمّا قمنا قال: كيف رأيت؟
قلت: أخطأ في ستّة أحاديث!
قال: سبحان الله! رجل من قريش يقعد فيروي في مجلس واحد شبيها بمائتي حديث، [و] تنكر أن يخطئ في ستّة أحاديث؟ إيش هي؟
قلت: حديث كذا وكذا.
قال: هذا يرويه فلان.
قلت: حديث كذا.
(١) الجمّة: مجتمع شعر الرأس. وانظر الخبر عند ابن أبي حاتم مناقب ... ٥٨.