للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقد حسر الجواري عن وجوههنّ وأرسلن شعورهنّ من ورائهنّ محلولة وعليهنّ جلال سود وعبى مخرّقة في أعناقهنّ، ومعهنّ عدّة جوق من النوائح المحزنة وقد أشعلت معهنّ ستّين شمعة، وعدّة كبيرة من الفوانيس يحملها الخدم والبابيّة والنوائح يندبن، والجواري يصحن، وكان من قول النوائح بالأصوات الشجيّة:

جدّدوا همّي وأحزاني ... وافرحة الأعدا بسلطاني!

يا ضاربه بالسيف شلّت يداك ... قد بلغت يمناك منه مناك

لا ماتني ربّي حتى أراك ... قد سمّروا عينيك وهذا جزاك

إلى غير هذا. فأقمن على هذا ستّ ليال، كلّ ليلة من العشاء إلى السحر حتى قلق الناس وكثر توجّعهم وبكاؤهم. فهاجت حفائظ المماليك الأشرفيّة واجتمعوا إلى الأمير سنجر الشجاعيّ وبكوا عنده فهيّجه بكاؤهم، واجتمع بكتبغا النائب وغيره من الأمراء، حتى كان من قتل الأمراء ما ذكر في موضعه.

[صفاته الجسميّة]

وكان بطلا شجاعا مهابا عالي الهمّة، يملأ العين ويرجف القلب. وكان ضخما سمينا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللّحية على وجهه رونق الحسن وهيبة السلطنة.

وكان إلى جوده وبذله الأموال في أغراضه المنتهى، تخافه الملوك في أقطارها، [و] أباد جماعة من كبار الدولة.

وكان منهمكا على اللذّات لا يعبأ بالتحرّز على نفسه لفرط شجاعته. وكان كرمه زائدا وإطلاقاته عظيمة.

وكانت واقعته تسمّى وقعة الأيدي والأكتاف، لأنّ جميع من وافق على قتله قطعت أيديهم أوّلا، وفيهم من سمّر، وفيهم من أحرق، وفيهم من قتل.

[[نماذج من توقيعاته]]

ولم يجدّد في زمانه مظلمة ولا استجدّ ضمان مكس. وكان يحبّ الشام وأهله. وكان عند ما أقيم سلطانا، منع أن يكتب إلى أحد بدعاء في أوّل المكاتبة مثل: حرس الله نعمة المجلس، وما أشبه ذلك، وقال: من هو الذي افتتح خطابه بالدعاء له؟

ولمّا توفّي فتح الدين ابن عبد الظاهر (١)، وأقام بعده عماد الدين ابن الأثير في كتابة السرّ بعث إليه ورقة بخطّة فيها: يا عماد، اكتب كيت وكيت! - ثمّ بعد مدّة جاءت إليه منه ورقة فيها بخطّه: يا عماد الدين، اكتب بكذا وكذا! - ثم بعد مدّة جاءته ورقة فيها: يا عماد الدين كاتب سرّنا، اكتب بكذا وكذا!

وكان الموقّعون يكتبون في الطرّة إشارة إلى ما يعلّمه السلطان، على قدر المكاتبة، إمّا أن يكتب:

«آمره»، أو يقولون «بيبرس» أو «قلاوون» أو «خليل» بحسب اسم السلطان. فأبطل ذلك ابن عبد الظاهر في أيّام الأشرف- أعني كتابة «خليل» - وكتب: «الاسم الشريف»، فأعجب السلطان ذلك وأمر له لكلّ حرف بألف درهم. ووجدت أوراق كثيرة عند شرف الدين فضل الله كاتب السرّ بخطّ الأشرف إليه فيها مقاصد ما يكتبه عنه بعبارة


(١) عبد الله بن عبد الظاهر (ت ٦٩٢) رئيس ديوان الإنشاء، وهو صاحب كتاب «تشريف الأيّام والعصور في سيرة الملك المنصور»، وكتاب «الألطاف الخفيّة من السيرة الأشرفيّة»: الأعلام ٤/ ٢٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>