للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قريب». ثمّ أمر الرقّاص (١) أن ينزعوا لجام فرسه ويسقوه من بئر هناك، ففعلوا. وقصد بذلك أن يريهم قلّة اكتراثه بالعدوّ. ثمّ افترق القتال. فكتب إليه أبو يزيد يسأله في ردّ عياله وأولاده ونسائه ونساء رجاله وأولادهم الذين أخذوا من القيروان، وحلف وأكّد الأيمان أنّه إن ردّهم رجع إلى الطاعة، على أن يعطيه الأمان في نفسه وولده وأهله ويخلّي بينه وبين السكنى في منزله بتقيوس. فأجابه إلى ذلك ووجّه المنصور في رفعهم من المهديّة، فلمّا علم أبو يزيد ذلك عزم على إخراج عسكر ليقطع عليهم الطريق ويخلّصهم، فبلغ ذلك المنصور فبادره بالزحف، وبرز إليه أبو يزيد فالتحم القتال وقتل جماعة.

فبعث أبو يزيد يقول: قد كان بيننا أمر في وصول العيالات ونتمّ ما عقدناه.

فردّ عليه المنصور: قد اتّصل بنا أنّكم أخرجتم خيلا تقطع على العيالات الطريق.

فقال أبو يزيد: كنّا على أن نفعل ذلك، وما فعلنا.

فأمسك عن قتالهم. وقدمت العيالات فأبرّهم المنصور وبعث بنجّاب إلى أبي يزيد يخبره بقدومهم ليوجّه من يتسلّمهم، وأمر بفازة فنصبت خارج المدينة وفرشت. فقدم رجلان من ناحية أبي يزيد فأنزلهما وحمل الطعام إليهما وكسا سائر عيالات أبي يزيد الديباج والخزّ، وأعطى كلّ نسمة عشرة دنانير وبعث إلى الرسول بمائة دينار، ووجّه بهم ليلا، ومعهم عدّة أحمال من حلوى، والمشاعل بين أيديهم وجماعة تحفّ بهم حتّى حلّوا بمعسكر أبي يزيد. فبعث بهم إلى جبل

أوراس، ونكث ما عقده وحرّض أصحابه على الجهاد.

[[استئناف القتال]]

فلمّا بلغ ذلك المنصور خرج قبل صلاة الفجر من يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجّة، وقد تقلّد سيفه وبيده رمح، وتمادى بعساكره إلى ناحية أبي يزيد فلم يخرج إليه أحد. فأمر بالهجوم عليهم. فهابوا ذلك فعاد وقد غضب ولم يخرج من مضربه أيّاما كثيرة ولا دخل عليه أحد. ووجد على كتامة فإنّ بعضهم كان قد قال له: «يا مولانا لا نقاتلهم في هذا اليوم فإنّه يوم الأربعاء» (٢).

فأكثر البربر في تلك الأيام من أخذ الناس في الطرقات. ثمّ زحفوا في يوم الأربعاء لخمس خلون من المحرّم سنة خمس وثلاثين فركب المنصور، فكانت حرب عظيمة قتل فيها من أصحاب المنصور جماعة كثيرة. وهمّ بعض البربر، وقد اقتحموا عليه، أن يطعنه برمحه فحمل عليهم وهزمهم، وقتل منهم خلق كثير.

ثمّ عاد القتال في يوم الخميس لثلاث عشرة خلت منه واشتدّ وعظم بحيث لم يكن قبله مثله.

وحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ثمّ قصد القلب، فبادر إليه المنصور بنفسه فخافت عليه كتامة وضرعوا إليه (٣) أن يرجع وقالوا: «نحن أحقّ بهذا منك». فزجرهم وقال: «إلى متى هذا التجنّب عن هذا الكلب؟ وحقّ جدّي لا تركته ولا أمهلته، ثقة منّي بوعد الله لرسوله! ». ورفع ثيابه على عاتقه


(١) الرقّاص: مثل النجّاب، هو خادم موكّل بحمل الرسائل.
وهو هنا مكلّف بشئون الأمير الخاصّة مثل مركوبه. وفي ملحق دوزي أنّ الكلمة خاصّة بالمغرب.
(٢) هذا التحذير من كتامة يحتاج إلى تفسير فلعلّه من ترّهات المنجّمين. وقد أكّد القاضي النعمان في المجالس والمسايرات، ١٣٢ أنّ المنصور، على درايته بعلم النجوم، لم يكن يؤمن بتأثيرها في حظوظ الناس ولا في سير الحوادث.
(٣) في المخطوط: عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>