وكتب فيه أيضا أحمد بن محمد بن مدبّر، وهو على خراج مصر، وشقير الخادم متولّي البريد بمصر في معنى هذا. فورد على أحمد بن طولون من الحضرة كتاب: أمّا بعد، فإنّا رأينا أن نردّ إليك أمر دارنا بالحضرة وتدبير مملكتنا. فإذا قرأت هذا فاستخلف على قصرك من أحببت، والبلد لك وباسمك، واشخص إلينا فيما ندبناك إليه ورأيناك أهلا له، والسلام.
فلمّا قرأ أحمد بن طولون الكتاب، عرف بما فيه من الدهاء والذكاء وغزارة العقل وقوّة الحزم، أنّها حيلة عليه حتى يقع في القبضة. فأنفذ كاتبه أبا عبد الله أحمد بن محمد الواسطيّ إلى الحضرة ومعه مال كثير إلى الوزير الحسن بن مخلد، وأضاف مع المال شيئا من دقّ تنيس ودمياط وكثيرا من الخيل والبغال والطرف، وكتب إليه يسأله أن تشمله عنايته في الإقامة على عمله، وأن يطلق له ولده وحرمه. فلمّا وصل ذلك إلى الحسن قال:
ما نزعجه عن عمله ولا نقبل فيه قول ساع يسعى فيه.
وركب هو ويارجوخ صاحب أحمد بن طولون وأبو امرأته إلى أمير المؤمنين المعتمد على الله، وأحسنا القول في أحمد بن طولون وصغّرا ما كتب به ماجور وابن مدبّر وشقير. فأمر بتثبيت عمله في يده. فكتب إليه الوزير الحسن بن مخلد بذلك وأطلق له حرمه وولده، فقدم عليه بهم الواسطيّ، فسرّ بذلك سرورا كثيرا، وتصدّق بصدقات جليلة المقدار، وحمل إلى الحسن هدايا سنيّة ومالا كثيرا، [٥١٩ أ] وكتب يشكره على ما كان منه ويستدعي بالكتب التي كتبت في حقّه. فلمّا ملأ عيّن الحسن وقلبه أنفذ الكتب إليه. فلهذا لحق الحسن بأحمد بن طولون واختاره.
[تولّيه الخراج بمصر]
قال الصوليّ: لمّا قدم الحسن بن مخلد على أحمد بن طولون رأى منه ما لم ير مثله قطّ من الفهم والدراية بأمور الدنيا، فحظي عنده وقرّر أن يستكتبه وقال له: انظر في الأعمال بمصر. فنظر فيها فضمن له زيادة ألف ألف دينار في ارتفاعها، على أن يكون العدل أفشى والناس أرضى. فخافه الكتّاب فدسّوا إلى ابن طولون من قال له: هذا عين للناصر أبي أحمد الموفّق عليك.- فحبسه وعذّبه إلى أن قتله. وما وثق الكتّاب بحبسه بمصر وخافوا أن يحتاج إليه حتّى قالوا: من حقّ هذا أن يحبس في غير مصر، فإن حدث به حادث لم يكن في جوار الأمير ولا ينسب إلى أفعاله. فأنفذه إلى أنطاكية وتقدّم إلى صاحبه بها أن يعذّبه، فمات في الحبس بأنطاكية في سنة تسع وستّين ومائتين.
وذكر عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر أنّه مات بحبس ابن طولون بمصر في صفر سنة إحدى وسبعين ومائتين.
وذكر غيرهما أنّه مات في سجنه بأنطاكية يوم الأحد لخمس خلون من شعبان سنة سبع وستّين ومائتين.
[سبب تنكّر ابن طولون له]
وذكر أحمد بن يوسف الكاتب في سيرة ابن طولون أنّ أحمد بن طولون لمّا وصل إليه الحسن بن مخلد أظهر إكرامه وإعزازه والتجمّل به والتشرّف. ولم يزل عنده على هذه الحال إلى أن تأمّل أحمد بن طولون منه أنّه يرى أنّ فعله ذلك به لاستحقاق و [هو] فرض واجب عليه، وأقبل يتبسّط المتبوع من التابع، إدلالا واطّراحا للهيبة ولتوفية الحقّ. فأحفظه ذلك عليه، وكان ينادمه، فحضر يوما محبوب بن رجاء معه بحضرة