للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ودمائهم. فلمّا كان من قتلهم ما كان نزلت على أجسادهم.

وأقام المنصور بعد الظفر، والعساكر توافيه من كلّ جهة، وقد اعتصم أبو يزيد بجبل كيانة ومعه بنو كملان. ورحل المنصور من المسيلة في يوم الجمعة غرّة شهر رمضان حتّى نزل على ستّة أميال من أبي يزيد. وركب في يوم السبت بعساكره فسلك طريقا صعبة في جبال شامخة وأودية ضيّقة. وترجّل عن دابّته في بعض تلك الأوعار ومشى راجلا نحو ثلاثمائة خطوة. ثمّ ركب وسار حتّى أشرف على أخبية أبي يزيد وخصوصه، وهو يرتّب الناس للقتال في ذلك الوعر ويأمرهم بتقوى الله والإمضاء على أعداء الله وينهاهم عن النهب.

وانتشب القتال فكانت بينهم حرب شديدة.

وقصد المنصور أبا يزيد بنفسه، فلمّا رآه ولّى منهزما على عادته وأسلم أخبيته وخصوصه، فأمر المنصور بإلقاء النار فيها. وانتهب العسكر ما لا يوصف، فوكّل المنصور قوما من الصقالبة بقتل من وجدوا معه شيئا من النهب لأنّهم اشتغلوا عنه به وتفرّقوا حتّى لم يبق معه إلّا اليسير، فطمع أصحاب أبي يزيد وكسروا أجفان سيوفهم واستحرّ القتال وعلا بعضهم على تلك الجبال يقاتلون من أعلاها بالحجارة. وأحاط القتال بالمنصور من كلّ جهة فكان الأولياء إذا اشتدّ عليهم القتال وأرادوا الفرار صدّهم ما وراءهم من ضيق المسالك فيرجعون إليه ويلوذون حول مظلّته، فكلّما أقبل العدوّ من جهة حمل عليهم بنفسه فانهزموا بين يديه ولم يحتملوا رؤيته. فقتل من الفريقين خلق عظيم، وكان يوما لم يسمع قطّ بمثله. وانطبقت (١) الحرب ودامت إلى اصفرار الشمس، وكلّت الخيل

وفني السلاح، وتعجّب البربر من صبره وشجاعته. وانصرف راجعا من طريقه فتسابق البربر إلى الجبال التي في طريقه ليرسلوا الصخور عليهم فأنذره رجل بذلك فسلك طريقا غيرها فتخلّص الجيش بأسره إلى معسكره بعد أن مضى صدر من الليل. فلم يكن في تلك الحروب كلّها أعظم من هذا اليوم ولا أشدّ. ونادى في الناس أن يردّوا كلّ ما انتهبوه لعصيانهم إيّاه ومخالفة أمره.

فأحرق ذلك كلّه بالنار.

[تحصّن أبي يزيد بجبل كيانة]:

وأوى [١٩٢ ب] أبو يزيد إلى قلعة كيانة وهي منيعة لا ترام. ثمّ وصل في سابعه خفيف الخادم ومعه ثائر ثار بأرض كتامة وادّعى الربوبيّة فقتل.

وأمر في هذا اليوم المنصور بعمل قفص من خشب على بكرات وقال: «لا بدّ أن أدخل الفاسق- يعني أبا يزيد- في هذا القفص مع قردين». وكان الناس يمرّون به ويتعجّبون.

وأقبلت هوارة وسائر القبائل يطلبون الأمان فأمّنهم وأحسن إليهم وخلع عليهم. وبعث بنو كملان ومزّاته الذين مع أبي يزيد في القلعة يطلبون العفو إلى أن يأتوا بأبي يزيد أسيرا فأجابهم وكفّ عن قتالهم، وانتظرهم شهرا حتّى تبيّن له كذبهم.

ثمّ ركب يوم الأحد غرّة شوّال إلى مصلّى بناه فصلّى بالناس صلاة العيد وخطب خطبة بليغة (٢) ثمّ انصرف إلى مضاربه فأمر بإطعام الناس على مراتبهم.

ونادى من الغد بالرحيل وسار إلى قلعة كيانة فنزل تحتها، وأبو يزيد ومن معه قيام ينظرون إليه.

وجاءت السماء بمطر عظيم ورعد هائل وبرق ملحّ


(١) لا يوجد «انطبق» في المعاجم. ولعلّها تعني: عمّت وانتشرت كما في قولهم: طبّق الماء الأرض إذا غشّاها.
(٢) نقل الداعي إدريس خطبتي العيد في عيون الأخبار، ٤١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>