للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خوفا (١) من البربر، وعاود الفريقان القتال وتمادى بينهم إلى بعد الظهر فقتل بينهم خلق كثير، وكان يوما شديد الحرّ، فانصرف البربر إلى معسكرهم.

فكان هذا اليوم من الأيّام المشهورة، وقد وصفه جماعة من الشعراء. [و] قال أبو يزيد لمّا رجع إلى مناخه: «ما رأيت قطّ أثبت من إسماعيل ولا أشجع. هذا يصلح أن يكون ملكا». وفي ذلك يقول محمّد بن الحرث (٢) الأبروطي من قصيدة طويلة [طويل]:

ولم أر كالمنصور بالله ناصرا ... لدين، ولا أحمى لملك وأمنعا

ألم تر يوم القيروان وقوفه ... وقد همّت الأكباد أن تتصدّعا؟

وأبرز عن وجه من الصبر أبيض ... يقابل وجها للكريهة أسفعا (٣)

ثمّ زحف أبو يزيد في يوم الاثنين إلى الخندق فعبّأ له المنصور ووقف ووقعت الحرب فنادى مناديه: «من أتاني برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار». وكانت في هذا اليوم أعجوبة وقف عليها جميع أهل العسكر: وذلك أن رجلا من البربر حمل بدابّته إلى أن وقف بالقرب من المنصور فجعل يشتمه ويؤنّبه، فهمّ الأولياء به من كلّ وجه، فزجرهم عنه، فلمّا استوفى مقالته رفع المنصور يديه إلى السماء وقال: «اللهمّ، خذ لي بحقّي منه! » فما هو إلّا أن ردّ فرسه البربريّ حتّى انقلب عليه الفرس فوقع قربوس (٤) سرجه على صدره

فمات من حينه وحمل الأولياء عليه فجزّوا رأسه، فخرّ المنصور ساجدا على معرفة (٥) فرسه.

ووقعت الحرب وكانت للبربر. ثمّ اشتدّ القتال وعظم الحرّ وطلب المنصور الحشود وحثّ في ذلك، فتوقّف كثير من الناس عنه مخافة أن تكون الغلبة لأبي يزيد. وقدم عليه طوائف فأنزل كلّ طائفة بموضع وخندقوا عليهم. فكانت الحرب كلّ يوم مرّة لهم ومرّة عليهم، وغلب على ظنون أكثر الناس أنّ أبا يزيد سيظهر لما رأوا من قوّته وكثرته.

وأخذ أصحابه الناس في الطرقات إلى أن كان يوم الاثنين لعشر بقين منه، فزحف أبو يزيد بنفسه وأطلق النار في بقية الأنادر (٦)، ونشب القتال ووقف المنصور على باب الخندق يمدّ العسكر بالخيل والرماة، وأبو يزيد ثابت. فوجّه المنصور خيلا ورجالا ومعهم بندان وركب في أثرهم. فلمّا رآهم أبو يزيد ترك القتال وتوجّه نحو أخبيته فاشتدّت الهزيمة عليه وعلى أصحابه وأثخنتهم الجراح فمات منهم في هذه الليلة خلق عظيم ونقصت خيولهم [١٩٠ ب] بالنشّاب. وعاد المنصور إلى معسكره.

[[حسن معاملته لحرم خصمه]]

فلمّا أصبح أبو يزيد جمع أصحابه وأشار عليهم بترك القتال، وبثّ أصحابه ينهبون، ومنع الميرة عن القيروان إلى أن اشتدّ بهم الأمر. ثمّ زحف في نصف ذي الحجّة وقاتل قتالا شديدا، وخرج المنصور وقاتل بنفسه حتّى هزمهم. ونزل فجلس على كرسيّ والقتال مشتدّ فسأله الأولياء أن يركب، لخوفهم عليه فقال: «لا تخافوا فإنّ النصر


(١) في المخطوط: جموعا. وأخذنا بقراءة عيون الأخبار، ٣٦٢.
(٢) في عيون الأخبار، ٣٦٤: محمّد بن سعيد. وكذلك فيما سيأتي.
(٣) سيأتي نقل أطول لهذه القصيدة، مع شيء من الاختلاف:
«أن تتقطّعا». وأيضا «وجه للحفيظة أبيض».
(٤) قربوس السرج: حنوه، أي القسم الإمامي المرتفع.
(٥) المعرفة (وزن مدرسة): موضع العرف من الفرس، أي شعر العنق.
(٦) الأنادر مفرده الأندر، وهو الكوم من القمح، وأيضا البيدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>