وكان ابن الزبير قد لزم جانب الكعبة منذ قدم مكّة يصلّي عندها عامّة نهاره ويطوف، ويأتي الحسين بن عليّ عليه السلام فيمن يأتي ويشير عليه بالرأي. وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنّه علم أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين بالبلد، حتى [إذا] عزم الحسين على المسير إلى الكوفة، أتاه ابن الزبير فحدّثه ساعة ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكففنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم. خبّرني ما تريد أن تصنع؟
فقال: لقد حدّثت نفسي بإتياني الكوفة. ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف الناس، وأستخير الله.
فقال ابن الزبير: أمّا أنا، لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت عنها.
ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا، ما خالفنا عليك ولساعدناك وبايعناك ونصحنا لك.
فقال: إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشا به تستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.
قال: فأقم إن شئت وولّني أنا الأمر فنطاع ولا تعصى.
قال: ولا أريد هذا أيضا.
ثمّ [١٤٣ ب] إنّهما أخفيا كلامهما، فقال الحسين لمن هناك: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا ندري.
قالوا: إنّه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس.
ثم قال له الحسين: والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إليّ من أن أقتل فيها، ولأنّ أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أقتل خارجا عنها بشبر. وايم الله! لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم.
وو الله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!
فقام ابن الزبير فخرج من عنده. فقال الحسين:
إنّ هذا ليس شيء من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي، فهو يودّ أنّي خرجت حتى يخلو له.
فجاء عبد الله بن عبّاس إلى الحسين وحذّره من المسير إلى الكوفة، فأبى عليه، فقال: لقد أقررت عين ابن الزبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك.
ثم خرج من عنده فمرّ بابن الزبير فقال: «قرّت عينك يا ابن الزبير! » ثم قال متمثّلا [الرجز]:
يا لك من قنبرة بمعمر ... خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقري
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز.
فلمّا سار الحسين عليه السلام شهّر ابن الزبير للأمر الذي يريد، ولبس المغافر وشبر بطنه وقال:
إنّما بطني شبر، وما عسى أن يسع الشبر؟
[تمرّد ابن الزبير على بني أميّة]
وجعل يظهر عيب بني أميّة ويدعو إلى خلافهم وقال: «من ينصر الله وينصر الكعبة؟ ومن ينصر الحرم؟ » وأقام على ذلك حتى جاء الخبر بقتل الحسين. فقام في الناس فعظّم قتل الحسين وعاب أهل الكوفة خاصّة وأهل العراق عامّة فقال، بعد حمد الله والصلاة على رسول الله: إنّ أهل العراق غدر فجر إلّا قليلا. وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق. وإنّهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم. فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه فقالوا: «إمّا أن