للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ورحل من الغد وهو يوم الخميس لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى، فنزل المسيلة فأقام بها خمسة عشر يوما، وقد كثر الإرجاف بالقيروان بعد هذه الوقعة. فكتب مدام بذلك إلى المنصور، فوقّع إليه بخطّه: «ذكرت ما كان المرجفون أشاعوه، وخاضوا فيه وأذاعوه، وأنّ ذلك أقلقك وأغمّك، وقد كنت تقدّمت إليك قبل خروجي وأمرتك بالإعراض عمّا تسمعه والإقبال على ما تعتقده، وعرّفتك أنّي لم أركب الغرر وأتجشّم الخطر، وإنّما خرجت منتجزا لوعد قديم، من ربّ عزيز حكيم، لا تبديل لكلماته، ولا رادّ لأمره، ولا خلف لوعده. فثق بربّك واتّقه ترشد وتسعد.

واقرأ هذا الفصل على المنبر إن شاء الله». فقرأ ذلك مدام فسكن الإرجاف.

ورحل المنصور من المسيلة لليلتين بقيتا من جمادى الأولى، في طلب أبي يزيد وأمر الناس بالزحف فساروا على تعبئة الحرب قبائل وعرائف (١)، وركب المنصور على نجيب ولبس جوشنا مذهبا عليه خفتان أحمر مثقل وعلى رأسه عمامة خزّ صفراء حتّى نزل في وسط جبل سالّات على ماء جار. ففرّ أبو يزيد يريد الرمال فرحل في طلبه. واجتمع إليه الأدلّاء وعرّفوه أنّه موضع ما سلكه عسكر قطّ. واشتدّ الأمر على العسكر وعدموا الشعير وغيره فبلغ علف الدابّة دينارا ونصفا وقربة الماء دينارا. وعلّف أكثر الدوابّ الحلفاء. فعاد إلى بلد صنهاجة. فلقي الناس من الوعور والثلج ما يئسوا معه من أنفسهم ومات منهم كثير. فأناخ المنصور ستّة أيّام حتّى تلاحق به الناس.

ووافاه البريد من المهديّة بمولد ولد له اسمه هاشم.

وقدم عليه زيري بن مناد بعساكر صنهاجة فحمله وخلع عليه وقلّده سيفا ووصله بصلة جزيلة وعقد له على قبائل صنهاجة والبربر. وفي مناخه هذا اعتلّ.

[[دخوله بلاد صنهاجة]]

ورحل في نصف جمادى الآخرة ثمّ نزل بوسط بلد صنهاجة ليشتّي هنالك فاشتدّت به العلّة ثلاثة عشر يوما ثمّ نقه. ورحل إلى [١٩٢ أ] المسيلة يوم الأربعاء لليلتين خلتا من رجب، وقد سبقه أبو يزيد إليها فارتفع إلى جبال كيانة. فاستدعى المنصور كتامة وعجيسة وزواوة وغيرهم فأتوه وأخذ على أبي يزيد الطرق فانحصر أبو يزيد في تلك الجبال.

ثمّ ركب المنصور يوم السبت لعشر خلون من شعبان متنزّها في أربعة آلاف فارس ومعه زيري في خمسمائة من صنهاجة، وكان النكّار قد كمنوا له.

فلمّا سار ركبوا ساقته فعطف عليهم وقاتلهم.

فأقبل أبو يزيد في خلق عظيم، فاستدعى المنصور بقيّة عساكره فأتته، وجرّد سيفه وقصد أبا يزيد فلم يثبت له وولّى على وجهه وأسلم أولاده، فركب السيف أقفية أصحابه فقتلوا أبرح قتل واتّبعوا في الجبال وبطون الأودية، ونجا أبو يزيد إلى الوعر فخلص، والعسكر في طلبهم أربعين ميلا حتّى كلّت الخيول وتكسّرت السيوف. وحزّ منهم ألف وسبعون رأسا وجّه بها إلى القيروان (٢). وكانت القتلى يومئذ يزيدون على عشرة آلاف. ولم يقتل من الأولياء فارس واحد. وغنموا ما لا يدخل تحت حصر.

ورأى الناس في ذلك اليوم أعجوبة: وذلك أنّ الفريقين لمّا برزا للقتال أقبلت النسور والغربان من وراء النكّار قبل الهزيمة فوقفت كالمنتظرةللحومهم


(١) هكذا في المخطوط، ولعلّها عرائق بالقاف، جمع عرقاة على غير قياس، بمعنى الأرومة والأصل.
(٢) في عيون الأخبار، ٤٠٩: إلى المهديّة.

<<  <  ج: ص:  >  >>