للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومخالفة الأمير عماد الدين أحمد ابن المشطوب (١) عليه، مع اضطراب أرض مصر بثورة العربان وكثرة المين والخلاف. فثبّته وقوّى قلبه وتكفّل له بتحصيل الأموال وتدبير الأمور. ففوّض إليه الوزارة في ذي القعدة منها.

وتوجّه إلى القاهرة فباشر على عادته وصادر أرباب الأموال من الكتّاب والتجّار، وقرّر على الأملاك مالا، وجدّد حوادث (٢) عديدة وبعث بالأموال إلى السلطان شيئا بعد شيء فزاد تمكّنه وعظمت مهابته واشتدّت في أعاديه نكايته وتوفّرت مكانته ورتبته بحيث إنّ السلطان لمّا عاد إلى القاهرة بعد انقضاء نوبة الفرنج كان يأتيه إلى داره ويجلس عنده بمنظرة على [٢٣٧ أ] الخليج ويشاوره في مهمّات الدولة. وما زال على هذا إلى أن توفّي وهو وزير في يوم الجمعة الثامن من شعبان سنة اثنتين وعشرين وستّمائة، فدفن برباطه الذي كان بقرب داره، وهو الآن بجوار مدرسته.

وكان بعيد الغور جمّاعا للمال ضابطا له من الإنفاق في غير واجب، قد ملأت مهابته الصدور، وانقاد له على الرغم والرضى الجمهور، وأخمد جمرات الرجال. وأضرم رمادا لم يخطر إيقاده على بال. وبلغ من الرتبة عند الملك الكامل أنّه بعث إليه بابنيه الملك الصالح نجم الدين أيّوب، والملك العادل سيف الدين أبي بكر يوم العيد، فقاما على رأسه وهو جالس، والشعراء تنشده مدائحهم فيه، فزاد القوصيّ (٣) في قصيدته عند ما شاهد الملكين قياما على رأسه [الكامل]:

لو لم تقم في الله حقّ قيامه ... ما كنت تقعد والملوك قيام

وقطع في وزارته الأرزاق المرتّبة على الدولة، ومبلغها في السنة أربعمائة ألف دينار. وتسارع إلى بابه أرباب الحوائج فكانوا يقفون ببابه وتمتلئ الطرقات بهم. وأكثر من يحضر إنّما هو لخوفه منه. وكان يهين الجميع ولا يحفل بشيخ منهم ولا عالم. وأوقع برؤساء مصر وأرباب البيوت بها، وأذلّ عزيزهم وأفقر غنيّهم ومحا آثارهم، وقدّم عدّة من الأراذل في مناصبهم.

[[قساوته على نفسه وعلى غيره]]

وكان مع ذلك جلدا قويّا حتى إنّه مرض مرّة بدوسنطاريا أزمنت به وقويت بحيث يئس الأطبّاء من حياته، فعند [ما] اشتدّ به الأمر وأشفى على الموت استدعى بعشرة من وجوه الكتّاب كانوا في حبسه وقال لهم: أنتم في راحة وأنا في الألم، كلّا والله لا يكون ذلك!

وأمر بهم فعصروا ونوّع عذابهم فصاروا يصرخون من شدّة العقوبة، وهو يصرخ لما به من الألم الشديد طول الليل إلى الصبح. فلم يمض غير ثلاثة أيّام حتى زال ما به وركب أقوى ما كان.

وكان كثيرا ما يقول: لم يبق في قلبي حسرة إلّا كون ابن البيسانيّ لم يمرّغ شيبته على عتباتي، يعني القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيسانيّ فإنّه مات قبل وزارته.

وكان درّيّ اللون تعلوه حمرة، طلق المحيّا، حلو اللسان، حسن الهيئة، كثير الدهاء مع هوج وخبث في طيش ورعونة مفرطة وحقد لا تخبو ناره [٢٣٧ ب] بحيث ينتقم ويظنّ أنّه ما انتقم فيعود.

وكان لا ينام عن عدوّه ولا يقبل معذرة أحد ويعادي سائر الرؤساء ولا يرضيه من عدوّه إلّا


(١) ابن المشطوب (ت ٦١٩) - الوفيات ١/ ١٨٠.
(٢) في الخطط ٢/ ٣٧٢: وأحدث حوادث كثيرة.
(٣) الزكيّ القوصيّ: عبد الرحمن بن عبد الوهّاب (ت ٦٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>