يشتريهنّ بالثمن الربح، إلى أجل يستدينه، فإذا حلّ يغدو وهو رهينه، فيتسامع به أهل اليسار ممّن ربطه عليه حبّ علمه وحسن ظنّه في دينه، لا خاب في زعمه، فيتكفّل بوفاء ذلك الدّين وغسل ذمّته وتنقيته من ذلك الشين، حتّى إذا صار بريئا من الطلبات، خالصا من المطالبات، عن له أن يشتري جارية، أو يزيد نفقة جارية، فلا يلبث شهرا، حتى يعود أثقل ممّا كان ظهرا، ويدوم على هذا في الزمان دهرا، فيقدّر له آخر فيوفّي عنه ما اشتغلت به ذمّته، واشتغلت بسبب همّه لمّته، واستجيزت بسببه عند أهل الورع مذمّته. هكذا كان دأبه ودأب ما يحمّل نفسه من أثقال التكاليف وإنفاق جمل المصاريف، كأنّه يحتقر الذهب، أو أنّ وفاء دينه على أهل الدنيا وجب.
وكان على وفور علمه ودينه، وشواغله بالتصنيف في كلّ حينه، يكمن ناره في زناده، ويحبس أواره في فؤاده، ويلبس الرجال على بغضها، ويسلب كلّ الأعمال لبعضها. وربّما قدر فعقر، وواخذ فما غفر. إلّا أنّ التقوى كانت تمنعه من أليم المجازاة، وتردّه عن بلوغ حدّ الغاية من التشفّي، وفي النفس حزازات.
[[صلابته في القضاء]]
واتّفق له في ولايته القضاء أن بعث إليه الأمير منكوتمر النائب يعلمه أنّ تاجرا مات، وترك أخا، من غير وارث سواه. وأراده أن يثبت استحقاق الأخ لجميع الميراث، بمجرّد هذا الإخبار، فأبى ذلك. وتردّدت الرسل بينهما إلى أن اشتدّ غضب منكوتمر، فبعث إليه الأمير كرت الحاجب. فلمّا دخل عليه سلّم فوقف، فردّ القاضي عليه السلام، وقام له نصف قومة وأمره فجلس. وأخذ يتلطّف بالقاضي في إثبات أخوّة التاجر بشهادة منكوتمر.
فقال: فماذا ينبني على شهادة منكوتمر؟
فقال: يا سيّدي، ما هو عندكم عدل؟
فقال: سبحان الله! ثمّ أنشد [الطويل]:
يقولون: هذا عندنا خير جائز ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟
وكرّر [١٦٩ ب] هذا البيت ثلاث مرّات. وقال:
والله متى لم تقم بيّنة شرعيّة تثبت عندي، وإلّا فلا حكمت بشيء! باسم الله! - يعني: قم! - فقام كرت وهو يقول: هذا والله هو الإسلام.
وبلغ ذلك الأمير منكوتمر فاعتذر إليه فلم يقبل عذره. فلمّا طلع القاضي للخدمة بالقلعة على العادة، ومرّ بدار النيابة، ومنكوتمر جالس بالشبّاك، تسارع الحجّاب إليه واحدا بعد واحد يقولون: يا سيّدي، الأمير ولدك يريد الاجتماع بخدمتك.- فلم يلتفت إلى أحد منهم، وهم يكرّرون السؤال. فقال: قولوا له: ما وجبت طاعتك عليّ!
ثمّ التفت إلى من معه وقال: أشهدكم أنّي عزلت نفسي. قولوا له: فليولّ غيري! - ورجع من غير أن يدخل إلى الخدمة السلطانيّة، ودخل بيته وأغلق بابه وبعث إلى النوّاب في الحكم بمنعهم.
فشقّ ذلك على السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، وأنكر على الأمير منكوتمر. وبعث إلى القاضي بالشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبّود، والطواشي مرشد، فما زالا به حتى ركب معهما إلى القلعة. فعند ما رآه السلطان قام إليه وتلقّاه، وأخذ بيده ليجلسه على المرتبة، فبسط خرقة كانت في كمّه فوق المرتبة، وكانت من الحرير، فجلس دون المرتبة. وأراد بوضع الخرقة فوق المرتبة ستر الحرير حتّى لا يراه وهو جالس. وأخذ السلطان يعرض عليه العود إلى القضاء ويتلطّف به وهو يأبى ذلك، إلى أن قبل