وكرهوا الغدر وعاره وشرّ عواقبه في الدنيا والآخرة، فأمسكوا عن ذلك وكرهوه.
فغضب المنصور وقرأه على القوّاد والجند [١٠٥ أ] فعادوا لأشدّ ما كانوا عليه وكانوا يأتون بابه فيمنعون من أن يدخل إليه أحد، ويمشون حوله ويسيرون إذا ركب ويقولون: أنت البقرة التي قال الله فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: ٧١].
فشكاهم إلى المنصور فقال: إنّ هؤلاء قوم قد غلب عليهم حبّ هذا الفتى حتى شيط بدمائهم واجتمعت عليه آراؤهم. وأنا والله يا ابن أخي وحبيب قلبي أخافهم عليك وعلى نفسي. فلو قدّمته بين يديك حتى يكون بيني وبينك لكفّوا، وأنا لك ناصح وأنت أعلم.
ويقال إنّه دسّ إليه شربة سمّ فأفلت منها.
ودخل سلم بن قتيبة عليه فقال له: أيّها الرجل، بايع هذا الأمير وقدّمه، فإنّك لن تخرج من الأمر، وأرض عمّك.
فقال: أو ترى أن أفعل؟
قال: نعم.
قال: فإنّي أفعل.
فأتى سلم المنصور فأعلمه ذلك فسرّ به وعظم له قدر سلم عنده. ودعا المنصور الناس إلى البيعة. فتكلّم عيسى وسلّم الأمر إلى المهديّ وصار بعده. وخطب المنصور فشكر عيسى على ما كان منه، وذكر أنّه التالي للمهديّ عنده في موقعه من قلبه وحاله عنده، ووهب له مالا عظيما، وأقطعه قطائع خطيرة نفيسة، وولّاه الأهواز والكوفة وطساسيجها (١).
ويقال إنّ المنصور أمر بعيسى فخنق بحمائل
سيفه حتى خلع نفسه. وضمن له المنصور رضاه فوفى له به.
[[حزمه ووقاره]]
وكان محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن قدم البصرة مستخفيا، ثم خرج عنها وبلغ المنصور ذلك فقدم البصرة. ويقال بل قدم في أمر القطائع والمسالح، وكان على البصرة عمر بن حفص فولّاه السند، وولّى شهاب بن عبد الملك بن مسمع البحر، وولّى عبد العزيز بن عبد الرحمن الأزديّ البصرة، وولّى سوّار بن عبد الله بن قدامة بن عنترة العنبريّ القضاء، ثم ولّاه صلاة البصرة.
وكان المنصور لا يرى شاربا نبيذا، ولم يعط مغنّيا شيئا قطّ ولا أجرى عليه رزقا يثبت في ديوان أو يخرج به أمر أو كتاب. وكان أعطى الناس في حقّ وأعملهم بحزم وأشدّهم شكيمة على عدوّ.
وأقبل المهدي من داره يريد المنصور، والمنصور جالس في الخضراء في قصره بالمدينة ببغداد. فلمّا وقعت عينه عليه جعل يعوذه ويدعو له حتّى إذا تبيّنه غضب وقال: [١٠٥ ب] ردّوه! أما رأيتم عليه خفّا أحمر كأنّه من عبيد الروم؟ أهذا لبس من كان مثله؟
فألزمه منزله أيّاما ثم دعا به وعاتبه. وكان أمر المنصور جدّا كلّه.
وقال المدائنيّ: كاتب العبسيّون محمد بن عبد الله بن حسن، وكاتبهم محمد. وكان ممّن كاتبه أبو ذفافة. فلمّا شخص المنصور إلى بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة، وغزا الصائفة، وتتبّع الأجناد والكور، أقدم أبا ذفافة معه فأصحبه المهديّ فخصّ به. وكان يطلعه على أسراره وأموره. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين،
(١) الطّسّوج ج طساسيج: الناحية.