للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[[استمرار الشغب بين أهل دمشق والمغاربة]]

واتّفق أنّ بعض المغاربة في هذا اليوم جرى بينه وبين بعض أهل الشرّ من الدمشقيّين نزاع في صبيّ أراد المغربيّ أن يغلب عليه، فرفع الدمشقيّ السيف وقتل المغربيّ في السوق. فاضطرب البلد وغلّقت الأسواق وثار العسكر، فسدّ أهل البلد باب الصغير، واشتدّ حنق أبي محمود، وفرّق السلاح على أصحابه في الليل، وأصبح العسكر يريد باب الصغير، فصاح النفير في البلد وكبّر الناس على الأسطحة، فطرح العسكر النار في الدور التي خارج المدينة. وخرج ابن الماورد في جماعته ومعه سوقة ونظارة أكثرهم بمقاليع، ودار المستنفرون في أزقّة المدينة ينفّرون الناس للقتال، فأقبلوا أفواجا إلى باب الصغير، والقتال قد حمي بين الفريقين.

ونزل أبو محمود في محراب المصلّى واضطجع لوجع كان به في باطنه وهو يتأوّه، فكانت في هذا اليوم عدّة وقائع آلت إلى انهزام أهل البلد. وطمع المغاربة في أخذها، فضجّ الناس بالنفير من الأسطحة والمآذن، وعلا صياح الرجال والنساء والصبيان، وكثر الحريق، واشتدّ الرمي على المغاربة من فوق الدروب بالنشّاب والحجارة. فردّوا عن دخول البلد. وخرج مشايخ البلد من باب الجابية [٢٦ ب] وفيهم ابن أبي هشام وأبوالقاسم أحمد بن الحسين العقيقيّ العلويّ (١) - وكان أبو محمود يجلّه ويعظّمه- فتوجّهوا إلى أبي محمود وقالوا له:

«الله! الله، أيّها القائد في الحرم والأطفال! » وما زالوا به حتى ردّ العسكر عن المدينة بعد ما أشرفوا على أخذها. وصرف العقيقيّ من كان من الرعيّة يريد أن يقاتل، وسار أبو محمود بعسكره إلى

حيث كان ينزل، وذلك في آخر ذي الحجّة [سنة ٣٦٣] فصلح الأمر وسكن الشرّ.

وخرج الناس إلى أبي محمود ودخل أصحاب الشرطة المدينة، إلّا أنّه كان قد فرّ من الغوطة خلق كثير إلى المدينة، وفيهم طائفة دعّار وطمّاع صاروا مع أهل الشرّ من أهل المدينة، وفيهم طائفة يقال لها «الهياجنة» (٢) من قرى المرج لا يعرفون سوى الفساد. فصار هؤلاء يأكلون أهل السلامة والمستضعفين والذمّة ويجبون مستغلّات الأسواق ويكبسون المواضع فينهبون ما فيها. فأكلوا بذلك ولبسوا وحسنت أحوالهم، وصاروا يكرهون أن يتمكّن السلطان لئلّا يزول ما هم فيه. فهلك كثير من الناس بين العسكر وبين أهل الشرّ.

فلمّا كان في بعض الليالي مرّ صاحب الشرطة على عادته فإذا بصبيّ صبّاغ معه سيف فأخذه وقتله، فخشي أهل الشرّ أن تمتدّ يد السلطان فيهم فيفنيهم. فثاروا عند الصباح بصاحب الشرطة، ففرّ بمن معه إلى أبي محمود وأقبلت الهياجنة إلى الخضراء، وجمعوا البواريّ والقصب وقالوا:

«هذه البواريّ (٣) والقصب أراد المغاربة أن يجعلوها في بطائن الجامع ليحرقوه». وقال أهل الشرّ لجهّال العامّة: «اصعدوا المآذن ونادوا النفير إلى الجامع! ». ففعلوا ذلك وثار الناس بالسلاح إلى الجامع، فلم يروا غير بواريّ وقصب مطروحة في الخضراء. وركب العسكر وطرحوا النار في كلّ موضع بقي فيه عمارة واقتتلوا على الأبواب، فكان يوما عظيما شرّه من شدّة القتال وقوّة الحريق.

فاشتدّ الخوف على البلد، وعلا الضجيج إلى أن أظلم الليل، وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من


(١) قد ذكر هذان الوسيطان في ترجمة جعفر بن فلاح ٣/ ٥٠ (١٠٧٨) وذكر ابن القلانسي العقيقي فقط (ص ٩).
(٢) الهياجنة: لعله أراد بها فرقة الهجّانة فجمعها على هياجنة.
(٣) الباريّة والبارياء: الحصير المنسوج (اللسان: بري) وهو من قصب عادة.

<<  <  ج: ص:  >  >>