من الموالي لا يجري ذكرك بحضرته في مجلس الموفّق أو غيره إلّا بسط لسانه فيك وحرّض عليك- فكتب إليه: قد وجّهت إليك كتابا يصل إليه من يدك. فأوصله سرّا من جميع الناس مع ما حملته إليك لتوصله إليه، ولا يقف عليه أحد! - وكان الكتاب يصف فيه شوقه إليه ويتطلّع إلى معرفة خبره، وأنّه قد كان منذ مدّة طويلة يطلب رجلا يعتمد عليه بالحضرة لمهمّاته، فعسر ذلك عليه خوفا أن ينكشف أمره فيتعذّر عليه ما يحتاج إلى معرفته من جهته. [وقال]: فلمّا بلغني مقالاتك فيّ، وبسط لسانك بذكري بما يسرّ العدوّ ويغمّ الصديق، علمت أنّه بهذه الحالة يتمّ لي منك ما أحبّه، وتيقّنت أنّ [هـ] بمودّتك ورجوعك إليّ يبلغ كلّ منّا غرضه. وقد أنفذت إليك ما أستميل به قلبك وأرغب فيه بمؤاخاتك ومسالمتك، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:«تهادوا تحابّوا! »، وقال عليّ عليه السلام:«الهديّة عطفة القلوب». وقد وجّهت إليك بما جعلته هديّة إليك: ألفي دينار تصرفها في بعض مهمّاتك. ولن أقطع مواصلتك بحسب ما أقف عليه من خلوص طويّتك وصحّة نيّتك. فلا تخلني يا أخي من ذكر أحوالك حسّنها الله، فتكاتبني بجميع ما أحتاج إلى علمه. فإنّ الذي تأتيه من ذلك يغيب ويستتر عن الخلق كلّهم لما يعرفونك به من الانحراف عنّي، ولا تقطع ذكرك لي بما جرت به عادتك فيّ، بل تزيّد في الطعن عليّ وثلبي، فإنك تبلغ لي بذلك ما أحبّه في قضاء حوائجي وتسرّني بما تأتيه فيه إن شاء الله.
فلمّا وصل الكتاب والمال، دعا وشكر، وصار من أخصّ أصحاب أحمد بن طولون يكاتبه بجميع ما يجري في دار الموفّق ودار المعتمد وسائر البلد بما يحتاج إلى علمه. واستتر أمره مدّة طويلة عن أصحاب أخبار الموفّق. ثمّ انكشف أمره للموفّق فأحضره وضربه بالسياط ورماه بالمطبق فأقام فيه أيّاما ومات. فانتفع به أحمد بن طولون ثم استراح منه بأهون سعي.
[[زهادته في اللذات]]
وكان عند أمّ ولده جوار أهدين إليه ما رأت أحسن منهنّ ولا أجمل فشوّقته إليهن بحسن الصفة لهنّ. فذكر لها شغل قلبه عن ذلك. ثمّ دخل إليها بعد ليال فتبيّنت منه انشراح صدر وطيبة نفس.
فذكرتهنّ له، فقال: اعرضيهنّ عليّ! - ففعلت.
فنظر إلى الأولى وقال: حسنة والله! - ثمّ أحضر بعض الخدم وقال: امض بها إلى غلامي فلان وقل له: بحياتي عليك، اطلب منها الولد!
ثمّ لم يزل يفعل ذلك بواحدة واحدة حتّى استوفى عدّتهنّ منها. فتبيّن الغيظ في وجهها.
فضحك وقال: أراك مغيظة؟
فقالت: يا مولاي، آثرت بمثل هؤلاء، المتعذّر وجدانهنّ، غلمانك على نفسك!
فقال لها: يا ويحك! قد ارتفعت رغبتي في النكاح وما شابهه، وصارت رغبتي الآن في حراسة دولتي. وغرضي [٩٤ ب] ورأيي ضبط نعمتي (١).
ومن اضطرّ إلى من يظافره على أمره سلك هذا المسلك وآثر هذا الإيثار. وهؤلاء الغلمان هم عدّتي، وينسبون إليّ انتساب الأبناء إلى الآباء، وشهواتهم مقصورة على الأكل والشرب والنكاح.
فأنا أؤثرهم بما يحبّون وأرتفع عنه، كما أنّهم يؤثرو [ن] ني في أوقات المضايق على نفوسهم فيبذلون دوني مهجهم.
فقالت: وفّق الله الأمير!
فقال لها: اعلمي أنني أجد في فهم الرجل عنّي وإفهامه إيّاي من الالتذاذ أكثر ممّا يجد مجامع