للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

سببه. وكانت عادتي إذا لحقني مثل ذلك أن أخرج جوهرا عندي في درج معدّة لهذا، من ياقوت أحمر وأزرق وأصفر، وحبّا كبيرا فاخرا تكون قيمته خمسين ألف دينار وأكثر، وأستدعي صينيّة ذهب لطيفة، فأجعله فيها وألعب به وأقلّبه، فيزول ضيق صدري. فاستدعيت ذلك الدرج فجاءوني به بلا صينيّة فأنكرت ذلك وأمرت بإحضارها.

وفتحت الدرج ففرّغت ما فيه في حجري ورددته على الخادم وأنفذته يجيئني بالصينيّة، وأنا جالس على بستان في صحن داري في يوم بارد طيّب الشمس، وهو مزهر بصنوف الشقائق والمناثير (١).

و[بينا] أنا ألعب بتلك الجواهر إذ دخل الناس إليّ بالصياح والزعقات بالمكروه والكبس، وقربوا منّي. فدهشت، ولم أحبّ أن يظهروا على ما في حجري، فنفضت جميعه بين تلك الأزهار في البستان، ولم ينتبهوا إليه. وأخذت فحملت وجرى عليّ من المصادرات ما جرى، وبقيت في الحبس المدّة الطويلة التي حبستها، وانقلبت الفصول على البستان فجفّ ما فيه، ولم يفكّر أحد في قلعة أو زراعته وإثارته. وأغلقت الدار، فما قرّ بها أحد من أسبابي ولا أعدائي بعد الذي أخذ منها، وفرّغت ووقع الإياس من وجود شيء فيها.

ثمّ سهّل الله تعالى إطلاقي، فأطلقت. فحين جئت إلى داري ورأيت الموضع الذي كنت جالسا فيه ذلك اليوم، ذكرت ذلك الجوهر الذي كان فيحجري، ونفضي إيّاه في البستان. فقلت: ترى بقي منه شيء؟ ثمّ قلت: هيهات! - وأمسكت.

[[ ... وكنز عند الشدائد]]

فلمّا كان من غد أخليت الدار، وقمت بنفسي، ومعي غلام يثير البستان بين يديّ، وأنا أفتّش شيئا

شيئا [٣٨٨ ب] ما يثيره، وأجد فيه الواحدة بعد الواحدة من ذلك الجوهر، وكلّما وجدت شيئا منه حرصت على الإثارة وطلبت الباقي إلى أن أثرت جميع البستان. فوجدت جميع ذلك الجوهر ما ضاع منه واحدة. فأخذته وطابت نفسي بذلك وعلمت أنّه قد بقيت بقيّة من الإقبال صالحة.

وقال في كتاب نشوار المحاضرة: سمعت الأمير أبا محمد جعفر بن ورقاء يحدّث، قال:

اجتزت بابن الجصّاص بعد إطلاقه، فرأيته كالمجنون فلمّا رآني استحيى. فقلت: ويحك، ما الذي أصابك؟ .

فقال: أولا يحقّ لي أن يذهب عقلي وقد خرج عن يدي كذا وكذا- وجعل يردّد أمرا عظيما ممّا خرج عنه.

فقلت له: يا هذا، إنّ نهايات الأمور غير مدركة، وإنّما يجب أن تعلم أنّ النفوس لا عوض لها، والعقول والأديان لا خلف منها، وهي قد سلمت لك. وإنّما يعلق هذا العلق من يخاف الفقر أو الحاجة إلى الناس، أو فقد العادات من مأكول ومشروب وملبوس وما جرى هذا المجرى، أو النقصان في الجاه. وليس في بغداد اليوم، بعد ما خرج عنك، أيسر منك من أصحاب الطيالسة.

أليس دارك هذه لك، وفيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك، وإن لم يكن ذلك الكثير المفرط؟

قال: بلى.

قلت: ودار كذا، وقيمتها عشرة آلاف دينار؟

قال: بلى.

قلت: وعقارك بباب الطاق، وقيمته ثلاثون ألف دينار؟

قال: بلى.


(١) ج المنثورة: زهرة ذكيّة الرائحة.

<<  <  ج: ص:  >  >>