من عملها. فلم يقدر على ذوقها، وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.
واشتدّ به الأمر. فسأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه عنه، هل يمكن برؤه؟ فأخذا يديه وجسّاه فوجدا نبضه خارجا عن الاعتدال منذرا بالفناء.
والتصقت أيديهما ببشرته لعرقه الذي كأنّه الربّ أو كلعاب الأفاعي، فأنكرا معرفة العرق وذكرا أنّهما لم يجداه في شيء من الكتب، وأنّه دالّ على انحلال البدن.
ثم أحضر المأمون أناسا من الروم وسألهم عن اسم الموضع، وهو «القشيرة» فقالوا: «معنى البذندون: مدّ رجليك» فاضطرب عند سماع ذلك وتطيّر منه. فقال: ما اسمه بالعربيّة؟
فقالوا: الرقّة.
وكان في مولده أنّه يموت بموضع يعرف بالرقّة، فكان يتحامى الإقامة بالرقّة خوفا من أن تدركه منيّته بها. فلمّا سمع ذلك علم أنّه الموضع الذي يموت فيه. فلمّا ثقل قال: «أخرجوني أشرف على عسكري وانظر إلى رجالي وأتبيّن ملكي! » وذلك بالليل. فأخرج. فلمّا أشرف على الخيم والجيش وكثرته، وما وقّدوا من النيران قال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه!
ثمّ ردّ إلى مرقده. وأجلس المعتصم رجلا يلقّنه الشهادة لمّا ثقل، فرفع الرجل بها صوته ليقولها المأمون، فقال ابن ماسويه: «لا تصح، فو الله ما يفرّق في هذه الحالة بين ربّه وبين ماني! » ففتح عينيه وبهما من العظم والتورّم والحمرة ما لم ير مثله قطّ، وأقبل يحاول أن يبطش بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، فرمى بطرفه نحو السماء وقد امتلأت عيناه دموعا، وانطلق لسانه من ساعته وقال: «يا من لا يموت، ارحم من يموت! » وقضى من ساعته، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، فحمل إلى طرسوس فدفن بها.
وكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر تنقص سبعة أيّام، سوى سنتين كان يدعى له فيهما بمكّة، والأمين محصور ببغداد. وعمره ثمان وأربعون سنة وخمسة أشهر وأيّام، وقيل: ويومان. وقيل:
كان عمره تسعا وأربعين سنة. والصحيح أنّه عاش من العمر ثماني وأربعين سنة وأربعة أشهر وخمسة أيّام، وما سوى هذا غلط في الحساب.
وكان ابتداء مرضه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة.
[[شيء من أخباره]]
وقال سعيد بن العلاء: دعاني المأمون يوما، فوجدته جالسا على شاطئ البذندون، والمعتصم عن يمينه، وهما قد دلّيا أرجلهما في الماء. فأومأ إليّ أن أضع رجلي في الماء، وقال: «ذقه! هل رأيت أعذب منه أو أصفى أو أشدّ بردا؟ » ففعلت وقلت: ما رأيت قطّ مثله يا أمير المؤمنين.
فقال: أيّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه؟
فقلت: أمير المؤمنين أعلم.
فقال: الرطب الأ [خضر].
فبينا هو يقول إذ سمعت وقع لجم البريد فالتفتّ فإذا بغال البريد [١٢٥ ب] عليها الحقائب فيها الألطاف. فقال لخادم له: انظر إن كان في هذه الألطاف رطب فائت به.
فمضى وعاد ومعه سلّتان فيهما [ ... ] كأنّما جني تلك الساعة، فأظهر شكر الله تعالى. وتعجّبنا جميعا. وأكلنا، وشربنا من ذلك الماء. فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم، وكانت ميتة المأمون في تلك العلّة. ولم يزل المعتصم مريضا حتّى دخل العراق، وبقيت أنا مريضا مدّة.