للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولمّا مرض المأمون أمر أن تكتب إلى البلاد الكتب «من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه من بعده أبي إسحاق، ابن هارون الرشيد».

وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العبّاس، وبحضرة الفقهاء والقضاة والقوّاد. وكانت وصيّته بعد الشهادة والإقرار بالوحدانيّة والبعث والجنّة والنار، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء عليهم السلام:

إنّني مقرّ بذنب أرجو معه وأخاف، إلّا أنّي إذا ذكرت عفو الله رجوت. فإذا متّ فوجّهوني وغمّضوني، واسبغوا وضوئي وطهوري وأجيدوا كفني. ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقّه عليكم في محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ جعلنا من أمّته المرحومة. ثم أضجعوني على سريري، وعجّلوا بي. وليصلّ عليّ أقربكم بي نسبا وأكبركم سنّا، وليكبّر خمسا (١). ثم احملوني وابلغوا بي حفرتي. ولينزل بي أقربكم قرابة وأودّكم محبّة، وأكثروا من حمد الله وذكره. وضعوني على شقّي الأيمن، واستقبلوا بي القبلة، وحلّوا كفني عن رأسي ورجليّ. ثم سدّوا اللحد، واخرجوا عنّي وخلّوني وعملي فكلّكم لا يغني عنّي شيئا ولا يدفع عنّي مكروها. ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر سيّئ إن كنتم عرفتم.

فإنّي مأخوذ من بينكم بما تقولون. ولا تدعوا ناعية عندي فإنّ المعول عليه يعذّب. يرحم الله عبدا اتّعظ وفكّر فيما حتّم الله على خلقه من الفناء وقضى عليهم من الموت الذي لا بدّ منه. والحمد لله الذي توحد بالبقاء وقضى على جميع خلقه بالفناء. ثمّ لينظر ما كنت فيه من عزّ الخلافة، هل أغنى ذلك عنّي شيئا إذ جاء أمر الله؟ لا والله! ولكن

أضعف به على الحساب. فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرا! بل ليته لم يكن خلق!

يا أبا إسحاق، ادن منّي! واتّعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة التي طوّقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه، ولا [١٢٦ أ] تغترّ بالله ومهلته، ولا تغفل عن أمر الرعيّة. الرعيّة! الرعيّة! العوامّ! فإنّ قوّة الملك بهم وبتعهّدك لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين! ولا ينهينّ إليك أمر فيه صلاح المسلمين ومنفعهم إلّا قدّمته وآثرته على غيره من هواك. وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحقّ.

وعجّل الرحلة عنّي والقدوم إلى دار ملكك بالعراق. وانظر إلى هؤلاء القوم الذين أنت متاخمهم فلا تغفل عنهم في كلّ وقت. والخرّمية فأعرهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأسعفه بالأموال والسلاح والجنود، فإن طالت مدّتهم فتجرّد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدّم النيّة فيه، راجيا ثواب الله عليه.

ثم دعا المعتصم حين اشتدّ به الوجع وأحسّ مجيء أمر الله فقال: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتقومنّ بحقّ الله في عباده، ولتؤثرنّ طاعة الله على معصيته، إذا أنا نقلتها من غيرك إليك.

قال: اللهمّ نعم.

قال: هؤلاء بنو عمّك ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، ولا تغفل عن صلاتهم في كلّ سنة عند محلّها، فإنّ حقوقهم تجب من جهات شتّى. اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢]. اتّقوا الله واعملوا له، اتّقوا الله في أمروكم كلّها. أستودعكم


(١) التكبير على الجنائز: خمسا عند الشيعة (دعائم الإسلام للقاضي النعمان ١/ ٢٣٦) وأربعا عند السنة (بداية المجتهد لابن رشد ١/ ٢٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>