وقال الربيع: لمّا قدم الشافعيّ مصر، واجتمع الناس إليه، نظر [١٧١ أ] إليّ، فقال لي: يخفّ عليك يا بنيّ أن تبلغ إلى أبي زكير، فتأخذ لنا منه الدنانير- وكان قد باع فرسا له بستّين دينارا.
فقلت له: إيه والله! على الرأس والعين!
فقال: اذهب، صانك الله وعلّمك خيرا!
فأخذت الستّين دينارا، ثمّ رجعت وقلت له:
هذه الدنانير.
فقال لي: امسكها معك!
فتركتها معي. فلمّا طال مجلسه انصرفت إلى منزلي. ثمّ عدت، فقال لي: نفقتنا معك، فذهبت وتركتنا!
فلمّا قام إلى منزله، اتّبعته حتى دخل المنزل، وقعدت على الباب. فكتب إليّ رقعة: إن رأيت أعزّك الله أن تشتري لنا بكذا وكذا- ولم أعرف من هذا قبل ذلك شيئا- فكان هذا مبتدأ أمري معه.
ولقد وافق نزول الشافعيّ يوما، وأنا أكتب حسابه، فلاحظني وقال: لا تفسد قرطاسك! والله لا نظرت لك في حساب أبدا!
وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء، والشافعيّ ينظر إليّ، هيبة له.
وقال: كان أصحاب مالك يفخرون، ويقولون إنّه يحضر مجلس مالك نحو من ستّين معمّما- والله لقد عددت في مجلس الشافعيّ ثلاثمائة معمّم، سوى من شذّ عنّي.
[فراسة الشافعيّ]
وقال الحميديّ: قال محمد بن إدريس الشافعيّ: خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة، حتّى كتبتها وجمعتها، فلمّا حان انصرافي مررت على رجل في طريقي، وهو محتب بفناء داره، أزرق العينين، ناتئ الجبهة- قال الشافعيّ: وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة! - فقلت له: هل من منزل؟
فقال: نعم.
فأنزلني، فرأيت أكرم رجل: بعث إليّ بعشاء طيّب، وعلف لدابّتي، وفراش ولحاف. فجعلت أتقلّب الليل أجمع وأقول: ما أصنع بهذه الكتب، إذ رأيت النعت في هذا الرجل، فرأيت أكرم رجل؟
فقلت: أرمي بهذه الكتب!
فلمّا أصبحت قلت للغلام: أسرج! فأسرج، وركبت، ومررت عليه وقلت له: إذا قدمت مكّة فمررت بذي طوى، فسل عن منزل محمد بن إدريس الشافعيّ.
فقال لي: أمولى لأبيك أنا؟
قلت: لا.
قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟
قلت: لا.
قال: أين ما تكلّفت لك البارحة؟
قلت: وما هو؟
قال: اشتريت لك طعاما بدرهمين، وإداما بكذا، وعطرا بثلاثة دراهم، وعلفا لدابّتك بدرهمين، وكراء الفراش واللحاف: درهمين.
قلت: يا غلام أعطه! فهل بقي من شيء؟
قال: كراء المنزل، فإنّي وسّعت لك وضيّقت على نفسي.
قال الشافعيّ: فربطت نفسي بتلك [١٧١ ب] الكتب، فقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء؟
فقال: امض، خزاك الله!
فما رأيت أشرّ منه.
***