النخل وأكتاف الجمال، وأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور، فأكتب فيها حتّى كان لأمّي حباب فملأتها أكتافا وخزفا.
[إقامته عند هذيل ثمّ ذهابه إلى مالك]
ثمّ إنّي خرجت من مكّة فلزمت هذيلا في البادية أتعلّم كلامها وآخذ طبعها- وكانت أفصح العرب- فبقيت فيهم سبع عشرة سنة أرتحل برحلتهم وأنزل بنزولهم. فلمّا أن رجعت إلى مكّة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيّام العرب. فمرّ بي رجل من بني عثمان من الزبيريّين، فقال: يا أبا عبد الله، عزّ عليّ أن لا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة وهذا الذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك! (قال): فقلت: ومن بقي يقصد إليه؟
فقال لي: هذا مالك بن أنس سيّد المسلمين.
(قال): فوقع في قلبي، فعدت إلى الموطّأ فاستعرته من رجل بمكّة فحفظته في تسع ليال ظاهرا. ثمّ دخلت إلى والي مكّة فأخذت كتابه إلى والي المدينة وإلى مالك بن أنس. فقدمت المدينة وأبلغت الكتاب إلى الوالي. فلمّا أن قرأه قال:
والله يا فتى إنّ مشيي من جوف [١٢٢ ب] المدينة إلى جوف مكّة حافيا راجلا أهون عليّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فإنّي لست أرى الذلّ حتى أقف على بابه.
فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى الأمير أن يوجّه إليه ليحضر؟
فقال: هيهات! ليتني إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا حاجتنا!
فواعدته العصر، وركبنا جميعا، فو الله لقد كان كما قال: لقد أصابنا من تراب العقيق. (قال):
فتقدّم رجل فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الأمير: قولي لمولاك إنّي بالباب.
فدخلت فأبطأت ثمّ خرجت، فقالت: إنّ مولاي يقرئك السلام ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة نخرج إليه الجواب. وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس، فانصرف.
فقال: قولي له: معي كتاب والي مكّة في حاجة مهمّة.
فدخلت ثمّ خرجت، وفي يدها كرسيّ، فوضعته، ثمّ إذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طوال مسنون (١) اللحية.
فجلس وهو متطيلس، فدفع الوالي الكتاب فقرأه حتى إذا بلغ إلى مكان: «هذا رجل من أمره وحاله فتحدّثه وتفعل وتصنع»، رمى الكتاب من يده، وقال: يا سبحان الله! أو صار علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤخذ بالمسائل؟
(قال): فرأيت الوالي وقد تهيّبه أن يكلّمه.
فتقدّمت إليه وقلت: أصلحك الله، إنّي رجل مطّلبيّ، ومن حالي ومن قصّتي ...
فلمّا أن سمع كلامي نظر إليّ ساعة- وكان لمالك فراسة- فقال لي: ما اسمك؟
فقلت: محمد.
فقال: يا محمّد، اتّق الله، واجتنب المعاصي، فإنّه سيكون لك شأن من الشأن- ثمّ قال: نعم، وكرامة! إذا كان غدا، تجيء، وتجيء بمن يقرأ لك الموطّأ.
فقلت: فإنّي أقوم بالقراءة.
فغدوت عليه وبدأت أقرؤه ظاهرا، والكتاب في يدي، فكلّما تهيّبت مالكا وأريد أن أقطع القراءة
(١) مسنون اللحية: طويلها مصقولها.