للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فقال: أحسنت! بارك الله عليك! امض إلى العبّاس وقل له: اغد عليّ، وامنعه من أكل شيء- وكان العبّاس قليل الصبر على الجوع.

ففعل. وركب العبّاس، وكان يوم خميس، فجلس وأبطأ السلام حتى اشتدّ بالعبّاس الجوع.

ثمّ خرج السلام ودخل العبّاس إلى أبيه فوجد المائدة بين يديه. فدعاه وقدّم إليه سماني (١) كردناج. فانهمك العبّاس لفرط جوعه فأكل من صغائر الأطعمة حتّى شبع، وأحمد بن طولون متوقّف حتى جيء بدجاج فائق وبطّة صغيرة، مبزّر وغير مبزّر. فأخذ يأكل منها، ووضع بين يدي العبّاس فلم يجد فيه مساغا له. فقال له: يا عبّاس، لا تلق همّتك على صغائر الأمور فتفشل عن كبارها ولا يكون فيك موضع لما يجلّ قدره ويحسن موقعه. وهذا نظير تشاغلك [٩٢ ب] بالسّمانى عن الفائق وطيّب الطعام.

واعلم أنّه لا يتّصل بي أنّك أخذت على حاجة أقلّ من خمسمائة دينار لا يجد صاحبها مسّا منها ولا إجحافا عليه إلّا غضبت عليك ونلت كاتبك بغليظ العقوبة. ولا تستدع البرّ على الحوائج، ولكن أقمه مقام الهديّة التي تقبلها إن جاءتك عفوا، ولا تقتضيها إن تأخّرت عنك وتكافئ عليها بأحسن منها. فإنّ أعظم الفقر فقرك إلى رعيّتك. وإنّما أردت بحضورك اليوم معاتبتك.

[[يقظته إزاء أعدائه]]

وكان له صديق بسرّمن رأى. فلمّا استقرّت أحواله بمصر كتب إليه يسأله زيارته، ورغّبه في ذلك. فأجابه: «إنّ السفر ثقل عليّ». فلمّا تباعد ما بين أحمد بن طولون وبين أبي أحمد الموفّق،

ورد كتاب صديقه يذكر شوقه ويستأذن في الزيارة، فأذن له. وكتب إلى طيفور خليفته بالحضرة يأمره بالسؤال عن حال الرجل ومنزلته، وإلى من ينقطع. فلم يكن بأسرع من موافاة الرجل. فأخرج إليه عدّة من الوجوه يتلقّونه، ودخل مكرّما مبجّلا، وأنزله في الميدان وأعدّ له جميع ما يحتاج إليه. وتلقّاه، وأخذ يحادثه إلى أن صلّيت العتمة.

ثمّ صرفه إلى داره التي أعدّت له، ومعه طائفة من أصحابه وحجّابه.

فما بعد عنه حتّى قال لخاقان الطرسوسي:

سلّمه إلى مفلح، واقبض على رحله ومن معه بحيث لا يفوت شيء منه، ففعل ذلك. وكان من عادته إذا فعل شيئا يتوهّم فيه إنكار الناس عليه، اعتذر عنه. فقال لأصحابه: استدعيت هذا الرجل، وحاله ضعيفة، وقربه حسنة، فتشاغل عنّي. فلمّا كان في هذا الوقت، سألني الإذن بالشخوص إليّ فأجبته إلى ذلك. فكتب إليّ طيفور أنّه قد حسنت حاله وكثر نشبه وزاد من السلطان محلّه، فاثرت مشاهدته لأنّي قدّرت أنّ الموفّق دسّه إليّ في حسن السفارة فيما بيني وبينه حتّى يصلح ما تشعّث بيننا. فلمّا حضر لم يدع للموفّق حسنة ورماه بكلّ قبيح. ورأيت صورته قد انقلبت إلى الشّر، وما أشكّ أنّ معه ما يصدّق سوء ظنّي فيه.

ثمّ أحضر غلامين كانا مع الرجل وتهدّدهما على صدقه في كتب إن كانت معه، فأحضرا سفطا (٢) فيه ثمانون كتابا من الموفّق إلى وجوه القوّاد وإلى غلمانه يعدهم بتقليد البلدان الخطيرة والجوائز السنيّة إن فتكوا به. فقبض الكتب وأهلك الرجل بهذا السبب.


(١) السّمان: السلوى، نوع من الطيور. والكردناج: لعلّها:
كردناك، وهو ضرب من الشواء (دوزي).
(٢) السفط: الجولق والكيس.

<<  <  ج: ص:  >  >>