للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وخرج المنصور على الساحل فانتهى إلى قابس، ودخل أهل جزيرة جربة في طاعته، وقدم لعشر خلون من جمادى الآخرة، بعد ما غاب ثلاثين يوما.

وأمر القاضي النعمان بن محمّد بجمع العلماء المالكيّة والشافعيّة والحنفيّة والشيعة، فاجتمعوا يوم الخميس النصف من صفر، للنظر في هدنة صاحب القسطنطينيّة وموادعته، وهل يجتمع رأيهم على قبول المال منه وترك محاربته، أو محاربته وترك موادعته؟ فقالوا: «ما رآه أمير المؤمنين فهو الرأي». وكان رأيه قبول المال وتمام الموادعة. فانصرفوا من عند النعمان فوافوا خروج الأمير أبي تميم، ابن المنصور، فسلّموا عليه واجتمعوا عنده فسألهم عمّا جرى فأخبروه بما كان فأمرهم فانصرفوا.

ورفع إلى المنصور أنّ قاضي برقة (١) تقدم إليه خصمان، فحكم على أحدهما، فقال له المحكوم عليه: لقد حكمت بغير مذاهب أهل البيت عليهم السلام.

فقال له: والله لا أحكم بمذاهبهم ولو علّقت بيدي!

فأحضروه إلى القيروان وعلّق بيده على خشبة غرزت في غربيّ الجامع حتّى مات. وكان يتضرّع

في شربة ماء فلم يسق. وكان معه صهره فأغلي الرصاص وصبّ في دبره فمات.

وفيها أكّد المنصور لابنه أبي تميم معدّ أنّه وليّ عهده وخليفته ووصيّه والقائم بالخلافة من بعده.

[[مرض المنصور بعد نزهة بعين جلولاء]]

وخرج في شهر رمضان متنزّها إلى جلولاء، وهو موضع كثير الثمار فيه من الأترجّ ما لا يحمل الجمل منه سوى أربع أترجّات لعظمه. وكان قد ورد عليه منه شيء إلى قصره فأعجبت به حظيّته قضيب- وكان محبّا لها- وسألته أن ترى ذلك على أغصانه. فسار بها وخرج معه جميع عسكره، فأخذه بجلولاء مطر عظيم وريح بها شديد. فخرج منها راكبا على فرسه، وقضيب في عمّارية (٢)، يريد المنصوريّة، فدام عليه ذلك المطر والريح، وقد وحل في الطريق، فلم يمكنه إلّا التّمادي لما أراده الله. فكان يوجد العبيد السودان على الطريق قعودا، فإذا حرّكوا إذا هم موتى قد جفّوا في البرد لأنّه كان أمرا عظيما. وكان بين يدي المنصور حسنون الرقّاص فقال له: «يا حسنون، احتل في شيء تجعله بين رجليّ والركاب، فإنّي أحسّ برد الحديد». فقطع شيئا من ثيابه وجعله بين رجليه والركاب.

ووصل المنصور إلى قصره بالمنصوريّة آخر النهار، وقد مرّ عليه برد شديد. فأمر [٢٠٠ أ] في الوقت بإحماء الحمّام فأحمي، ودخل فاعتلّ من وقته.

وأتى عيد الفطر، فصلّى بالناس وهو متغيّر اللون ضعيف. فاستحكمت علّته في شوّال.

فأوصى ابنه أبا تميم أن يكفّنه في ثلاثة أثواب


- خزر. انظر عيون الأخبار، ٣٩٦ هامش ٩٤ و ٤٣٢، هامش ١٤٥.
(١) قاضي برقة: في معالم الإيمان، ٣/ ٦٠ قصّة مماثلة جرت على محمّد بن إسحاق الجيلي، وكانت الوشاية، لا بسبب موقفه من أحكام المواريث كما يبدو هنا، ولكن بسبب رفضه لتقدير هلال العيد بالحساب، وترك الرؤية.
وقد سبق المالكي: رياض ٢/ ٤٠٤ إلى ذكر الحادثة بأكثر تفصيلا وتهويلا. إلّا أنّه دون تهويل المقريزي هنا: فهو الوحيد الذي يذكر القتل بالرصاص المذاب.
(٢) العمّاريّة: هودج يحمل على جمل للسفر.

<<  <  ج: ص:  >  >>