للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ودخل إليه وهما معه، وعزم على أن يقدّم له المديح، فإن أنصفه وإلّا أظهر الهجاء. فذهل وناوله الهجو. فكتب له بثلاثمائة درهم على وكيله. فلمّا خرج إذا به قد ناوله الهجاء فخجل. وأخذ القاضي في غيبته يقرأ القصيدة سرّا ويظهر لجلسائه أنّها مدح ويستحسنها، ولم يبد أمرها لأحد.

وكان حسن الأخلاق، كثير التودّد، مليح المحاضرة، قاضيا للحقوق، لا يخلّ بافتقاد المرضى وحضور الجنائز، ومهاداة أصحابه، وكان [١٥٥ أ] حسن الملتقى، متواضعا إلى الغاية.

وكان فصيح العبارة، قادرا على الحفظ، طويل الروح، سالما، محسنا إلى من أساء إليه: بلغه أنّ الشيخ صدر الدين ابن المرحّل نظم فيه بلّيقة (١):

فتحيّل إلى أن وقعت بخطّه في يده. فتركها عنده إلى أن قيل له يوما: إنّ الشيخ صدر الدين بالباب فقال: يدخل- ووضع تلك الورقة مفتوحة على مصلّاه قدّامه. فرآها الشيخ صدر الدين وعلم أنّها بخطّه. ولم يزل القاضي إلى أن تحقّق أنّ صدر الدين رأى الورقة، فقال للطواشيّ: أحضر للشيخ ما عندك!

فأحضر له بقجة (٢) قماش يزبكند (٣) وبدلة وشاش، وصرّة فيها نحو خمسمائة أو ستّمائة درهم، وقال: هذه جائزة تلك البلّيقة.

وتوجّه مرّة بغلس ليصلّي صلاة الصبح بالجامع الأمويّ فضربه بالخضراء رجل بمطرق كبير، [ف] خرّ إلى الأرض، وقد ظن الرجل أنّه مات.

فلمّا أفاق حضر إلى منزله، وكان يقول: أعرفه وما أذكره لأحد.

وتراهن كتّاب الإنشاء أيّام كان يكتب معهم ب [ال] ديوان على أنّ أحدا منهم يسبقه بالسلام فلم يقدروا على ذلك.

وكان له خدم ومماليك وأموال جمّة. وهو من بيت حشمة. قال يوما للشيخ صدر الدين ابن الوكيل وغيره: فرق ما بيننا أنّي اشتغلت على الشّمع الكافوريّ، وأنتم على قناديل المدارس.

ولم يقدر أحد [أن] يدلّس عليه في مدّة ولايته القضاء قضيّة ولا شهادة زور، لكثرة تحرّيه في أحكامه، وبصره بقضاياها، ولا سمع عنه أنّه ارتشى في حكومة.

[[قدرته على الشعر]]

وكان الشهاب محمود كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري يهنّئه بفتح طرابلس ويذكر جراحة أصابته، بقصيدة أوّلها [البسيط]:

ما الحرب إلّا الذي تدمى به اللمم ... والفخر إلا إذا زان الوجوه دم

ولا ثبات لمن لم تلق جبهته ... حدّ السيوف ولا تثنى له قدم

فكتب الجواب قاضي [٦٤ أ] القضاة نجم الدين:

وافى كتابك فيه الفضل والكرم ... فجلّ قدرا وجلّت عندي النعم

وجاء من بحر فضل قد همى وطما ... درّ المعاني مع الألفاظ تنتظم

وصفت حالي حتى خلت أنّك قد ... شاهدتها، ولهيب الحرب يضطرم

وما جرى في سبيل الله محتسب ... فهو الذي لم تزل تسمو له الهمم

وجاءنا النصر والفتح المبين، فلو ... شاهدت نور الظّبى تجلى به الظّلم


(١) البلّيق والبلّيقة: زجل فيه الهزل والإحماض والخلاعة.
انظر العاطل الحالي والمرخص الغالي لصفي الدين الحلّي ٦.
(٢) البقجة: رزمة من الأقمشة أو الثياب.
(٣) بزبكند بالباء ثاني الحروف في الوافي، ولم نعرفها.

<<  <  ج: ص:  >  >>