[مناظرة علميّة بين إبراهيم وقومه]:
وقد ذكر أبو بكر أحمد بن عليّ بن قيس بن وحشيّة في «كتاب الفلاحة النبطيّة» الذي عرّبه من اللغة الكسدانيّة: إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا خالف قومه وجعل الأفعال كلّها في الأرض إنّما تكون من فعل فاعل هو أقوى وأقهر من الشمس وأعلى منها، وكان القوم صابئة يعتقدون أنّ الآثار الموجودة في الأرض كلّها إنّما تصدر عن الكواكب- فمن قولهم: إنّ الشمس هي التي تفيض على الكلّ- فاحتجّوا على إبراهيم لقولهم بما يشاهدونه من إسحاب الشمس بحركتها الدائمة على الأرض. فدفع إبراهيم ذلك وقال: ليس إسحاب الشمس بعلّة، بل العلّة فعل الفاعل بالشمس، وإنّما الشمس بمنزلة الفأس للنجّار.
وأنكر أن تكون سخونة الهواء من حركة الشمس وقال: إن كانت الحرارة تصل من الشمس إلى الهواء فتسخنه، فما بال تلك السخونة لا نجدها في الظلّ إذا تحوّلنا عن الشمس إليه؟ فقد كان يجب على قولكم أن نحسّ في الظلّ من السخونة مثل ما نحسّ به إذا كنّا في الشمس تحت شعاعها، لأنّ الهواء منبسط على الأرض متّصل بعضه ببعض.
فالجزء الذي [٤ أ] لا يناله شعاع الشمس قبل الجزء الذي يناله، وليس أحد الجرمين بمنفصل عن الآخر، بل هما معا.
فاحتجّوا عليه باتّصال الشعاع والتئامه بالهواء في ذلك الجزء، وانقطاعه عن الجزء الذي لا يتّصل به الشعاع، واحتجّوا باللون الناريّ الأحمر الذي يظهر في الجوّ، وقالوا: إنّما هو من توقّد الرطوبة الغالبة على الأرض المتصاعدة إلى الجوّ من حرارة الشمس عند محاذاة جرم الشمس.
فزاد إبراهيم عليهم بأن قال: إنّكم مجمعون على أنّ جميع البخارات التي ترتقي من البحار إلى الجوّ إنّما هي رطوبات فما تكاثف منها وتجمّع بالبرد، فإنّه يصير سحابا ممطرا، وما لا يلحقه البرد بقي بخارا راكدا رطبا، لأنّ أصله رطوبة مائيّة لا دهنيّة تقبل حرارة الشمس حتى تتوقّد منها. وإذا كان ذلك البخار كما ذكرنا لم يجز أن يتوقّد ولا يشتعل أبدا لأنّ رطوبته غير موافقة للاشتعال ولا قابلة للالتهاب.
فقالوا له: بل تلك الرطوبة الدهنيّة قابلة للتوقّد موافقة للاشتعال، فهي تشتعل لذلك.
فقال: هذا محال أن تتوقّد الرطوبة الدهنيّة فتبقى بمكانها طرفة عين. ومحال من وجه آخر هو أوكد: وذلك أنّ الرطوبة المائيّة تستحيل إلى الدهنيّة بطول طبخ الحرارة الليّنة لها بموضع لا ينالها فيه هواء البتة. فهل تكوّنت هذه الرطوبة في بطون الأرض وأطباقها، أم هي رطوبة ظاهرة، ما استحالت إلى الدهنية قطّ؟
فانقطعوا.
ونفاه الملك من إقليم بابل بعد استصفاء (١) جميع أملاكه إلى بلاد الشام لئلّا يميل إليه العامّة فيفسد عليه السياسة. وذلك بعد أن ناظرهم وناظروه أيّاما كثيرة وهو محبوس.
وليس ما ذكره ابن وحشيّة ببعيد، وهو، وإن كان عند من طالع كتبه ليس من أهل الأديان البتّة، لا أهل الإسلام ولا غيرهم من ملل الأنبياء، فإنّ في هذا الذي حكاه معنى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الأنعام: ٨٠]، وقوله تعالى:
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الأنعام: ٨٣].
(١) في المخطوط: استقصاء.