للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ظاهرها، وأتاه خبر رحيل أبي زيد عن القيروان فسرّه ذلك، وكتب كتابا يؤمّن فيه أهل القيروان.

وأصبح راحلا إلى مدينة القيروان فخيّم خارج المدينة يوم الخميس لستّ بقين منه، وهو في قلّة من العسكر مع ضعف الدوابّ. فخرج إليه الناس فأمّنهم ووعدهم خيرا.

ووجد بالقيروان جماعة من حرم أبي يزيد ونسائه وأولاده فجمعهم وكساهم وحملهم إلى المهديّة وأجرى عليهم الأرزاق.

وولّى قضاء القيروان محمّد بن أبي المنظور (١). وكتب إلى القبائل التي بجبال إفريقية يأمرهم بالقدوم، فتثاقلوا عنه. وجمع أبو يزيد قبائل البربر حتّى صار في خلق كثير وكان على يومين من مدينة القيروان، فأوقع أصحابه بكبون بن تصولا وقتلوه (٢) بعد حروب شديدة وقتلوا معه عددا كبيرا. فعزم المنصور على حفر خندق على معسكره وشاور في ذلك وجوه رجاله، فكلّهم كره حفره وقالوا: «هذه ذلّة». فقال لهم:

«إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد حفر خندقا وتحصّن به، ونحن أولى أن نفعل فعله ونتأدّب بأدبه ونقتفي أثره».

وأمر بحفر الخندق فبدئ فيه يوم الأربعاء غرّة ذي القعدة، وأخذ فيه الناس بالجدّ.

[[القتال حول القيروان]]

وأقبل أبو يزيد إلى القيروان ونزل قريبا منها.

وزحف ليلة الجمعة لثلاث خلون منه مخفّا ليبيّت العسكر. وكانت ليلة مظلمة فأخطأ الطريق فلم

يصل إلّا عند الفجر. فقامت الحرب على ساق، وركب المنصور وعبّأ الصفوف، والقتال يشتدّ وهو يكرّ على العدوّ يمينا وشمالا، وهو في قلّة من أصحابه، والمظلّة على رأسه فصارت كالعلم يعرف بها. ونزل على موضعه وحوله نحو خمسمائة فارس، وأبو يزيد في زائد على ثلاثين ألف فارس. فهزم البربر أصحاب المنصور حتّى أدخلوهم الخندق [١٩٠ أ] وهرب جماعة منهم إلى داخل القيروان ونهبت فازات كثيرة حتى بقي المنصور في تقدير عشرين فارسا من خدمه الذين لا يعرفون القتال. فأقبل أبو يزيد في جماعة يريد المنصور. فحمل عليهم المنصور مشهّرا سيفه ذا الفقار (٣). وأراد الصقلبيّ أن يلقي المظلّة عن رأسه ليخفي موضعه فزجره ونهره وقال: «لا تجزع فإنّ لله وعدا لا يخلفه». وأقبل نحو أبي يزيد حتى كاد أن يضع سيفه في رأسه، فألقى الله الرعب في قلب أبي يزيد فولّى هاربا مع أصحابه، فقتل من أدرك منهم وثبت مكانه ومسح الغبار عن وجهه بكمّه وقال لمن حوله من النجّابين (٤)، ولم يبق منهم غير أربعة: «اذهبوا فردّوا الناس! » وقد أخذ كثير منهم طريق المهديّة وطريق سوسة، فرجع من كان قريبا منه وأتوه من كلّ جهة فقال لهم وهو يبتسم:

«ادخلوا في [كمّي! ]. فاستحيى القوم منه. وكثر العجب من ثباته هذا الثبات مع أنّه لم يحضر قتالا قبله. وكان نساء أهل القيروان فوق الأسطحة يصرخن ويبكين ويرمين المنهزمين بالحجارة ويقلن: «يا كلاب، تركتم مولاكم، أخرجتموه من حصنه وأسلمتموه! ». وماج أهل البلد


(١) سيبقى ابن أبي المنظور قاضيا على القيروان إلى وفاته سنة ٣٣٧. وانظر ترجمته في رياض النفوس، ٢/ ٣٥٧.
(٢) عند الداعي إدريس، ٣٥٩، أنّه قتل في كمين نصبه فضل بن أبي يزيد. وكان كبون واليا على طبنة في بداية الثورة المخلديّة. وفي مخطوطنا هذه المرّة: كبون بن تصولات.
(٣) السيف ذو الفقار: انظر في شأنه المجالس والمسايرات للنعمان، ١١٤، ووقعة صفّين لنصر بن مزاحم، ٥٤٦، وعيون الأخبار، ٧٣٢.
(٤) النجّاب: الساعي الذي ينقل البريد وطلبات الأمير من مكان إلى مكان راكبا على نجيب، أي فرس أو جمل.

<<  <  ج: ص:  >  >>